وهذه استعارة ، والمراد بتوصيل القول ، والله أعلم ، إرداف بعضه ببعض ، وتكرير بعضه على أعقاب بعض ، مظاهرة للحجّة على سامعيه ، وإبعادا في منازع الاحتجاج على مخالفيه ، ليتذكّروا بعد الغفلة ، وينتبهوا من الرّقدة ؛ وذلك تشبيها بتوصيل الحبال بعضها ببعض ، عند إدلاء الدلو إلى الطّويّ البعيدة ، إلى أن يصل إلى الماء ، ويفضي إلى الرواء ، وهذا من دقيق المعاني.
وقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [الآية ٥٤].
وهذه استعارة ؛ لأنّ الحسنة والسّيئة ليستا بجسمين ، يصح دفع أحدهما بالآخر ؛ وإنّما المراد ، والله أعلم ، أنهم يختارون الأفعال الحسنة على الأفعال القبيحة ، فيكونون ، بذلك الاختيار ، كأنهم قد دفعوا السّيئات بالحسنات ، عكسا لرقابها ، وردّا على أعقابها ؛ وقد يجوز أن يكون أيضا معنى ذلك : أنهم يدفعون ضرر العقوبة بعاجلة التوبة ، لأنّ التوبة حسنة ، والعقوبة قد تسمّى سيّئة ، لأنها جزاء على السيئة ، ولأنها مضرّة وان لم تكن قبيحة.
وقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [الآية ٥٨]. وهذه استعارة ، والمراد بها أهل القرية ؛ والبطر سوء احتمال النعمة ، حتى يستقلع مغارسها ، ويستنزع ملابسها ؛ وقد مضت الإشارة الى نظير ذلك ، فيما تقدّم.
وقوله سبحانه : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [الآية ٥٩].
وهذه استعارة ، والمراد هاهنا بأمّ القرى مكّة على الأغلب ؛ وقال بعضهم المراد معظمها ، والمنظور إليها منها ، لأنّ ما هو دونها جار مجرى التّبع لها ، ومثل ذلك قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام : ٩٢ والشورى : ٧] ، يريد مكّة ، وإنما سمّيت مكة أمّ القرى ، لما ضمّته من بيت الله ، وحرمه ، ومهابط وحيه ، ومدارج أقدام رسله (ع) ؛ فصارت من أجل ما ذكرناه ، كأنها كبيرة القرى ، وصارت القرى بالإضافة إليها صغارا ، كصغر البنات إذا أضيفت إلى الأمهات.
وقوله تعالى : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٦٦).
وهذه استعارة ؛ والكلام وارد في وصف أحوال الاخرة ، لأنه سبحانه يقول أمام هذه الآية : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ