وفيه : أنّ البحث لو كان كذلك ، لكانت المسألة فقهيّة ، نظير البحث في أنّ غليان العصير العنبيّ ، هل يوجب حرمته ، أم لا؟ أو هل يوجب نجاسته ، أم لا؟ إذ لا يخفى عليك ، أنّ البحث في كلتا المسألتين يكون عن أحكام فعل المكلّف.
التّقريب الثّاني : أنّ البحث عن التّجرّي صورته هكذا ، هل يكون فعل الشّيء المقطوع حرمته ، قبيحا للتّجرّي ، أم لا؟ فإذا حكم بالقبح عقلا ، وصل الدّور إلى الملازمة والحكم شرعا بالحرمة من باب أنّ «كلّ ما حكم به العقل ، حكم به الشّرع» فالبحث حينئذ يكون عن الملازمة ، فيندرج في الاصول ، كسائر موارد الملازمات العقليّة المستقلّة وغير المستقلّة ، من مسائل الإجزاء ومقدّمة الواجب واجتماع الأمر والنّهي ودلالة النّهي على الفساد والضّدّ.
وقد اورد على هذا التّقريب أوّلا : بأنّ قاعدة الملازمة غير تامّة ؛ إذ ربما يدرك العقل قبح شيء ويراه شرّا مكروها ، وهو حسن وخير واقعا ، ملائم مطلوب حقيقة ، كما ربما يعكس الأمر ، فيدرك العقل حسن شيء ويراه خيرا مطلوبا ، وهو قبيح وشرّ واقعا ، وإلى هذا أشار قول الله تعالى : (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)(١).
والسّر فيه : قصور العقل وعدم علمه وإدراكه المحيط النّافذ ، كما أشار إليه الكتاب وهو قول الله عزوجل في ذيل الآية المتقدّمة : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، وكذا السّنة وهو ما ورد في الأخبار : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٢).
__________________
(١) البقرة (٢) ، الآية ٢١٦.
(٢) مستدرك الوسائل : ج ١٧ ، ص ٢٦٢.