فنزلت هذه الآية : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً). والمعنى : إنهم لا يقدّرون هذه الأرزاق الآتية لهم من كل شيء ومكان ، تفضّلا من الله ونعمة ، ولكن أكثرهم جهلة لا يعلمون الحق والخير.
والثاني ـ ليعلم هؤلاء المعتذرون من أهل مكة عن الإيمان خوفا من زوال النّعم : أن عدم الإيمان هو الذي يزيل النّعم ، فكثيرا ما أهلك الله أهل القرى السابقة ، التي كفرت وطغت وجحدت بأنعم الله ، وبطروا وتكبّروا ، فأصبحت مساكنهم خاوية على عروشها ، لا يسكنها أحد بعدهم إلا لمدة قليلة ، أثناء السفر والعبور ، وأصبح الوارث لها هو الله تعالى ، لأنها صارت خرابا ، لا يخلفهم فيها أحد. وهذا توعّد من الله تعالى لقريش بضرب المثل بالقرى المهلكة ، والمراد : فلا تغتروا أيها المكّيون بالحرم الآمن ، والثمرات التي تجبى لصلاح حالكم وقوام أمركم ، فإن الله تعالى مهلك الكفرة بسبب ظلمهم. وهذا دليل على عدل الله في خلقه ، فلا عقاب إلا بعد بيان ، ولا هلاك إلا بعد ظلم وجحود.
فلم يكن إهلاك أهل القرى من ربّهم إلا بعد إنذار ، حيث يرسل لهم رسولا في عواصمهم ، يبين لهم الآيات الدالّة على وجود الله وتوحيده ، حتى لا يبقى لهم حجة بالجهل ، ولا عذر بطمس معالم الحق ، ثم لا يكون الإهلاك لقوم إلا وهم ظالمون أنفسهم بإنكار الآيات الإلهية وتكذيب الرّسل.
والرّد الثالث ـ هو أن الإيمان بالله لا يضيّع منافع الحياة الدنيوية ، لأن التمتع بها مهيأ لجميع المخلوقات ، علما بأن جميع ما في الدنيا من مال وولد وزينة ومتاع ، إنما هو متاع مؤقت وزينة زائلة ، لا يجدي عند الله شيئا منها ، وهو لا بد زائل ، وزهيد قليل إذا قيس بنعم الآخرة ، فإن نعيم الآخرة باق دائم ، وهو خير محض في ذاته ، وأفضل من متاع الدنيا ، أفلا تتفكرون أيها الناس في أن منفعة الباقي الدائم أولى بالإيثار من منفعة المؤقت الزائل؟!