والوجع بكل قدر عشي وغدو ، والله أعلم.
وذكر عن ابن مسعود (١) ـ رضي الله عنه ـ أنها جعلت أرواحهم في أجواف طير سود ، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) إلى أن تقوم الساعة. فهو تفسير لما ذكر من الغدو والعشي ، ثم إن ثبت هذا عنه فهو سماع عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنه باب لا يدرك بالتدبير مع ما روي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : إن نبي الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا مات أحدكم عرض على مقعده بالغداة والعشي : إن كان من أهل الجنة فمن الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن النار ، يقال له : ها ذاك مقعدك حتى يبعث إليه يوم القيامة» (٢) فإن ثبت هذا وصح عنه ، فهو دليل لوجوب عذاب القبر ، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله : ، أي : يعذبون في الأوقات كلها بعد إدخالهم فيها ، وذكر الغدو والعشي يخرج على سكون النار في أوقات ثم تلتهب ؛ كقوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] ، والله أعلم.
فإن قيل : ما الحكمة فيما ذكر من إدخال آل فرعون في أشد العذاب ، والخصوصية لهم في ذلك من بين غيرهم من الكفرة؟
قيل لوجهين : أحدهما : أن غير موسى من الرسل ـ عليهمالسلام ـ قد نسبوا إلى السحر كما نسب إليه موسى ، لكن لم يتبين ولا تحقق لقومهم براءة رسلهم فيما قرفهم (٣) الرؤساء والقادة منهم بالسحر والكذب بما وجد منهم التمويه على السفلة والأتباع ، وقد تحقق لآل فرعون براءة موسى مما قرفه فرعون بالسحر والكذب ، وتبين عندهم صدق ما ادعى من الرسالة ، وذلك مما أقر جميع سحرة فرعون أن ما جاء به موسى حق وما يقوله صدق ، وإيمانهم بموسى ـ عليهالسلام ـ نهارا جهارا ، واختاروا القطع والصلب ، ولم يمتنعوا عن متابعته ، وما رأوا من انقلاب العصا حية تسعى وتلقف ما صنعوا ؛ فيكون عنادهم أشد ومكابرتهم أكبر ؛ فلذلك استحقوا أشد العذاب ، والله أعلم.
والثاني : أن آيات موسى أكثرها كانت حسية وآيات غيره عقلية ، ومعرفة ما كان سبيله الحس مما لا يتمكن فيه شبهة ؛ وقد يتمكن الشبهة فيما كان سبيله العقل ، فيكون عنادهم أشد.
__________________
(١) أخرجه عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٦٥٩).
(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٢٤٣) في الجنائز : باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي (١٣٧٩) ، ومسلم (٤ / ٢١٩٩) ، في كتاب الجنة وصفة نعيمها : باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (٦٥ / ٢٨٦٦) ، وأخرجه مالك (١ / ٢٣٩) في كتاب الجنائز : باب جامع الجنائز (٤٧).
(٣) قرفهم ، أي : اتهمهم ينظر : القاموس المحيط (قرف).