ما ذكر في آية أخرى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم : ٣٥ ، ٣٦] ، وقوله : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٨] أي : لا نجعل هذا كهذا في هذه الحياة الدنيا ؛ فدل ذلك على أن هناك دارا أخرى فيها يقع ذلك التمييز والتفريق ، فعلى ذلك ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
صرف عامة أهل التأويل ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإلى أبي جهل ـ لعنه الله ـ أنه أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يدفع سيئة أبي جهل بالحسنة ، لكن هذا لا يحتمل ؛ لأنه لم يذكر أن أبا جهل صار لرسول الله صلىاللهعليهوسلم كما ذكر حيث قال : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ، بل دامت عداوته إياه إلى أن خرج على رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم بدر وأغرى الناس عليه ، فرجع ذلك الإغراء إليه فقتل في ذلك اليوم ؛ فدل أنه لا وجه لصرف الآية إلى هذا.
ثم يخرج قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على وجهين :
أحدهما : ادفع سيئتهم في حادث الوقت بحسنة تكون منك إليهم ، أي : إذا أحسنت إليهم كفوا هم عن الإساءة إليك في حادث الوقت ـ والله أعلم ـ فيكون كقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].
والثاني : أي ادفع سيئتهم بالعفو والصفح عنهم ، أي : لا تكافئهم بمساويهم ولكن تجاوز عنهم واصفح ، فإذا فعلت ذلك يصير الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، أي : لا يعاد ذلك ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) :
على أمر الله تعالى والقيام بجميع أموره ، أو يقول : لا يعطى ولا يؤتى المعاملة التي ذكر ولا يوفق لذلك إلا من عزم على الصبر على ما أمر الله تعالى والصبر على ذلك.
وقوله : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
يقول : ولا يعطى هذه المعاملة التي ذكر من الدفع بالحسنة والصفح عن المجرم إلا من كان له حظ ونصيب عظيم عند الله تعالى ، والله أعلم.
وقوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ).
هذا يخرج على وجهين :
أحدهما : جائز أن يكون الاستعاذة التي ذكر هي مباشرة الأسباب التي بها يدفع نزغ الشيطان ووساوسه ، أمره أن يأتي بالأسباب التي يتهيأ له أن يدفع بها نزغاته وغمزاته ،