وقوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) معناه : ولا تستعجل لهم عذابا ؛ فإنّهم إليه صائرون ، ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة ؛ فإنّهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلّا ساعة لاحتقارهم ذلك ؛ لأنّ المنقضي من الزمان يصير عدما.
* ت* : وإذا علمت ـ أيّها الأخ ـ أنّ الدنيا أضغاث أحلام ، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد ، وحفظ الحواسّ ، ومراعاة الأنفاس ، ومراقبة مولاك ، فاتّخذه صاحبا ، وذر الناس جانبا ؛ قال أبو حامد الغزّاليّ ـ رحمهالله ـ : اعلم أنّ صاحبك الذي لا تفارقه في حضرك وسفرك ، ونومك ويقظتك ، بل في حياتك ، وموتك ـ هو ربّك ، ومولاك ، وسيّدك ، وخالقك ، ومهما ذكرته فهو جليسك ؛ إذ قال تعالى : «أنا جليس من ذكرني» ، ومهما انكسر قلبك حزنا على تقصيرك في حق دينك ، فهو صاحبك وملازمك ؛ إذ قال : «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» (١) فلو عرفته يا أخي حقّ معرفته لاتّخذته صاحبا ، وتركت الناس جانبا ، فإن لم تقدر / على ذلك في جميع أوقاتك ، فإيّاك أن تخلي ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه بمولاك ، وتلذّذ بمناجاته ، وعند ذلك فعليك بآداب الصّحبة مع الله تعالى ، وآدابها : إطراق الطّرف ، وجمع الهمّ ، ودوام الصمت ، وسكون الجوارح ، ومبادرة الأمر ، واجتناب النهي ، وقلّة الاعتراض على القدر ، ودوام الذّكر باللسان ، وملازمة الفكر ، وإيثار الحقّ ، واليأس من الخلق ، والخضوع تحت الهيبة ؛ والانكسار تحت الحياء ، والسّكون عن حيل الكسب ثقة بالضّمان ، والتوكّل على فضل الله معرفة بحسن اختياره ؛ وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك ، في جميع ليلك ونهارك ، فإنّه آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك ، والخلق كلّهم يفارقونك في بعض أوقاتك ، انتهى من «بداية الهداية».
وقوله : (بَلاغٌ) يحتمل معاني :
أحدها : أن يكون خبر مبتدإ محذوف ، أي : هذا إنذار وتبليغ.
ويحتمل أن يريد : كأن لم يلبثوا إلّا ساعة كانت بلاغهم ، وهذا كما تقول : متاع قليل ، وقيل غير هذا ، وقرأ أبو مجلز وغيره (٢) : (بَلاغٌ) على الأمر ، وقرأ الحسن بن أبي
__________________
(١) ينظر : «إتحاف السادة المتقين» للزبيدي (٦٣)
(٢) وقرأ بها أبو سراج الهذلي.
ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٤٠) ، و «المحتسب» (٢ / ٢٦٨) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ١٠٨) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٦٨) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٤٥)