وقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) هذا توبيخ لهم ؛ إذ كان منظرهم يروق جمالا وقولهم يخلب بيانا ؛ لكنّهم كالخشب المسنّدة ؛ إذ لا أفهام لهم نافعة ، وكان عبد الله بن أبي ابن سلول من أبهى المنافقين ، وأطولهم ، ويدلّ على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه ، قال الثعلبيّ : (تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لاستواء خلقها وطول قامتها وحسن صورتها ، قال ابن عبّاس : وكان عبد الله بن أبيّ جسيما صبيحا فصيحا ذلق اللّسان ، فإذا قال سمع النبيّ صلىاللهعليهوسلم قوله (١) ، ووصفهم الله تعالى بتمام الصورة وحسن الإبانة ، ثم شبّههم بالخشب المسنّدة إلى الحائط ، لا يسمعون ولا يعقلون أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام ، انتهى.
وقوله تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) هذا أيضا فضح لما كانوا يسرّونه من الخوف / وذلك أنّهم كانوا يتوقّعون أن يأمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن الله بقتلهم ، قال مقاتل : فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة ، أو صياحا بأيّ وجه ، أو أخبروا بنزول وحي طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم ، ثم أخبر تعالى بأنهم هم العدوّ وحذّر منهم.
وقوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء يتضمّن الإقصاء والمنابذة لهم ، و (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) معناه كيف يصرفون.
وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ...) الآية ، سبب نزولها أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم غزا بني المصطلق ، فازدحم أجير لعمر بن الخطّاب يقال له «جهجاه» مع سنان بن وبرة الجهنيّ ، حليف للأنصار ، على الماء فكسع جهجاه سنانا فتثاورا ، ودعا جهجاه : يا للمهاجرين ، ودعا سنان : يا للأنصار ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : ما بال دعوى الجاهليّة؟ فلما أخبر بالقصة ، قال : دعوها ؛ فإنّها منتنة ، فقال عبد الله بن أبيّ : أوقد فعلوها؟ والله ، ما مثلنا ومثل جلابيب قريش إلّا كما قال الأوّل : سمّن كلبك يأكلك ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، ثمّ قال : لمن معه من المنافقين : إنّما يقيم هؤلاء المهاجرون مع محمّد بسبب معونتكم لهم ، ولو قطعتم ذلك عنهم ؛ لفرّوا ، فسمعها منه زيد بن أرقم ، فأخبر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فعاتب رسول الله صلىاللهعليهوسلم عبد الله بن أبيّ عند رجال من الأنصار ، فبلغه ذلك ، فجاء وحلف ما قال ذلك ، وحلف معه قوم من / المنافقين ، وكذّبوا زيدا ، فصدّقهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم فبقي زيد في منزله لا ينصرف حياء من الناس فنزلت هذه السورة عند ذلك ، فبعث النبيّ صلىاللهعليهوسلم إلى زيد وقال له : لقد صدقك الله يا زيد ،
__________________
(١) ذكره البغوي (٤ / ٣٤٨)