بمطالب البشر جميعا على اختلاف بيئاتهم وأزمانهم.
ومطالب الحياة كثيرة ، وحاجات الإنسان لا تحصى ولا تنحصر ، فلا يكفيها تشريع تحتويه ملايين الصفحات.
فكان من حكمة الحكيم الخبير أن ينزل من القرآن نصوصا تحتمل وجوها من البيان ، كل وجه منها يمس جانبا من جوانب الحياة ، ويقضى مطلبا من مطالب الإنسان ، ويفتح له بابا من أبواب التيسير ؛ فيدفع عنه حرجا ، أو يجعل له مخرجا مما يعانى منه أو يحبسه عن تحقيق أهدافه المشروعة ، حتى يبدو وكأن النص الواحد جمع فى طيّاته نصوصا كثيرة ، تأمر وتنهى ، وتوصى وترشد ؛ فأغنى ذلك عن كتاب عظيم لا تستقصى صفحاته ، ولا تنقضى كلماته وتشريعاته.
وقد أدى هذا التشابه إلى خلاف محمود العواقب بين العلماء الأفاضل ، وجد الناس فيه رحمة من الله واسعة ؛ لأنه خلاف لم ينشأ بسبب تناقض فى النصوص القرآنية أو اختلاف بين أحكامها ، كلا ، كلا. (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢).
ولكنه خلاف مبنى على قرائن شرعية وعقلية استنبطوها من الكتاب نفسه ، ومن السنة المطهرة تجعل كل إمام يرجح وجها على آخر.
والاجتهاد واجب على علماء الأمة بشروط مبسوطة فى كتب أصول الفقه ، لم يخرجوا بحمد الله عنها ؛ فكان لمن أصاب منهم أجران ، ولمن أخطأ أجر واحد.
وقد وجد الناس فى هذا الخلاف تيسيرا وتوسعة أرادها لهم ربهم ـ عزوجل. قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة : ١٨٥). هذه حكمة سامية لوجود المتشابه فى القرآن الكريم وفى السنة المطهرة.
وفى وجود المتشابه ـ أيضا ـ تدريب للعقول على التأمل والنظر ، وفى هذا التدريب لذة لا يعرفها إلا أولو الألباب ، فكلما أدرك العالم بعقله وجها من وجوه الترجيح وفق ما لديه من القرائن ـ شعر بنشوة غامرة ، ورغبة ملحة فى مواصلة البحث والاستنباط.
ولا شك أن البحث عن الحقائق من أوجب الواجبات ، وهو يؤدى ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى الوصول إليها من غير تقليد ، فيكون إيمانه بها أتم وأكمل من إيمان المقلد قطعا.
قال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (الزمر : ٩).