وهذا المنهج لا يجعل الإنسان يعمل لدنياه ويهمل أخرته ، أو يعمل للآخرة ويهمل الدنيا ، كما هو شأن غيره من المناهج التي تغلب عليها النزعة المادية أو الروحية ، بل يجعله يعمل للدارين ويسعد فيهما ، لأن الآخرة امتداد للدنيا ، وما الموت إلا نقله من هذه الدار إلى تلك. وعلى الإنسان أن يبتغي الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا. ومن قصر اهتمامه على الدنيا كان فيها شقيا ، لا يدري كيف يقضي حياته ، يجري وراء السعادة وهي تفر منه ، والموت ينتظره حتى يبغته ، وهو لاهث منهوك القوى ، فيخسر الخسران المبين ، ومن عزف عن الدنيا وأهمل حظه منها ، فإنه يعجز عن حمل الزاد الذي يلزمه للدار الآخرة ، ولا يتمكن من الارتقاء إلى الدرجات العلى ، قال الله تعالى :
(وَابْتَغِ (١٧) فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ (١٨) الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). (١٩)
ولقد أباح الله الطيبات للمؤمنين ، ونهاهم عن تحريمها والعزوف عنها :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ). (٢٠)
وأنكر الرسول صلىاللهعليهوسلم على النفر الذين أراد أحدهم أن يصوم الدهر ولا يفطر ، والثاني أن يصلي الليل أبدا ولا ينام ، والثالث أن يعتزل النساء ولا يتزوج أبدا ، ظانين أنهم بذلك يصبحون أكثر عبادة وأقرب إلى الله تعالى. وقال لهم : «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنني فليس مني» (٢١).
وبذلك يكون هذا المنهج ملائما للفطرة ، وملبيا لحاجات الإنسان المختلفة. أما المناهج الأخرى ، فكثيرا ما تتصادم مع الفطرة ، وتترك آثارا سيئة على النفس. مثل ذلك ما كان عليه الرهبان ، إذ كانت فضيلة الراهب تقاس بمهارته في ابتكار طرق جديدة وغريبة للتقشف ، وذلك عن طريق تعذيب الجسد بالجوع ، أو التغذية بغذاء غير مناسب ، وعدم النوم بما يكفيه ، وعن طريق ارتداء الملابس غير الكافية ، أو الوقوف وقفة غير طبيعية ، ومجهدة للغاية ، والبقاء على مثل هذا الوضع عدة شهور أو عن طريق عدم العناية بنظافة الجسد ، أو ربط الأطراف بالأربطة ، وبحمل السلاسل