فقال له أمير المؤمنين يا ابن الخمارة ليس كما قست إن عثمان جلس في غير مجلسه وارتدى بغير ردائه صارع الحق فصرعه الحق والذي بعث محمدا بالحق لو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهطا لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري ثم قال:
أيها الناس إن الأشعث لا يزن عند الله جناح بعوضة وإنه أقل في دين الله من عفطة عنز (١)
وروى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال كنت عند أمير المؤمنين بالرحبة (٢) فذكرت الخلافة وتقدم من تقدم عليه فتنفس الصعداء (٣) ثم قال :
أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة (٤) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى (٥) ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير فسدلت دونها ثوبا (٦) وطويت عنها كشحا (٧) وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء (٨) يشيب فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ويكدح فيها
__________________
(١) العفطة من الشاة : كالعطاس من الإنسان.
(٢) تجد هذه الخطبة في ج ١ من نهج البلاغة ص ٢٥ وهي الخطبة المعروفة ب « الشقشقية » لقوله (عليهالسلام) في جواب ابن عباس :
« هيهات هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرت » وتعرف أيضا « بالمقمصة » لقوله (عليهالسلام) : « أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة » تسمية الشيء بأشهر ألفاظه كما هو الحال في أسماء سور القرآن الكريم كسورة آل عمران ، والرحمن ، والواقعة ، ويس وغيرها.
وهذه الخطبة الجليلة في حسن اسلوبها ، وبديع نظمها ، وفصاحة ألفاظها ، دليل لا يقبل التردد ، ولا يتطرق إليه الشك في كونها صادرة عن مركز الثقل الإلهي ، ومعدن الوصاية والإمامة ، فهي حقا كما قيل : « فوق كلام المخلوق دون كلام الخالق ».
وقد رواها الشيخ المفيد في الإرشاد ص ١٢٧ وقال ابن أبي الحديد في شرحه على النهج ص ٦٩ ج ١ : حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة « ٦٠٣ » قال : قرأت على الشيخ أبي محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة ..
إلى أن قال : فقلت له : أتقول إنها منحولة؟ فقال : لا والله ، وإني لأعلم صدورها منه كما أعلم أنك « مصدق » قال : فقلت له : إن كثيرا من الناس يقولون : إنها من كلام الرضي رحمهالله تعالى ، فقال : أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب؟ قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور ، وما يقع مع هذا الكلام في « خل ولا خمر ».
ثم قال : والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، وأعرف من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي قلت : وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة ، ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر ابن قبة أحد متكلمي الإمامية ، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب « الإنصاف » وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمهالله تعالى ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمهالله تعالى موجودا.
(٣) تنفس الصعداء ـ بضم الصاد وفتح المهملتين ـ : المدفوع من التنفس يصعده المتلهف الحزين.
(٤) ابن أبي قحافة : أبو بكر واسمه « عبد الله » وفي الجاهلية « عتيق » واسم أبيه « عثمان » والضمير في تقمصها عائد إلى الخلافة ، وإنما لم يذكرها للعلم بها ، وتقمصها جعلها مشتملة عليه كالقميص كناية عن تلبسه بها.
(٥) قطب الرحى مسمارها الذي عليه تدور فكما ان الرحى لا تدور الا على القطب وبغيره لا يستقيم لها دوران ، فكذلك الخلافة محله منها محل القطب من الرحى : لا تستقيم حركتها ولا تأخذ استقامتها بغيره ، وهو وحده القادر على تدبير شئونها وادارتها حسب المصلحة العامة ووفق الخطة الإلهية الحكيمة.
(٦) سدلت : ارخيت كناية عن اعراضه عنها ، واحتجابه عن طلبها.
(٧) الكشح : ما بين الخاصرة والجنب ، أنزل الخلافة منزلة المأكول الذي منع نفسه عنه ، فلم يشتمل عليه كشحه.
(٨) طفقت : جعلت ، واخذت ، وشرعت ، وارتأى افكر طلبا للرأي الصائب وصال : حمل نفسه على الأمر بقوة والطخية :ـ