وإنه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها لا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات فلا شيء إلا ( الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) الذي إليه مصير جميع الأمور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها وبغير امتناع منها كان فناؤها ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها لم يتكأده صنع شيء منها إذ صنعه ولم يؤده منها خلق ما برأه وخلقه ولم يكونها لتشديد سلطان ولا لخوف من زوال ونقصان ولا للاستعانة بها على ند مكاثر ولا للاحتراز بها من ضد مساور (١) ولا للازدياد بها في ملكه ولا لمكاثرة شريك في شركته ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها.
ثم هو ينفيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه من تصريفها وتدبيرها ـ ولا لراحة واصلة إليه ولا لثقل شيء منها عليه لا يمله طول بقائها فيدعوه إلى نزعة [ سرعة ] إفنائها لكنه سبحانه دبرها بلطفه وأمسكها بأمره وأتقنها بقدرته ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ولا استعانة بشيء منها عليها ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس ولا من فقر ولا حاجة إلى غنى وكثرة ولا من ذل وضعة إلى عز وقدرة.
ومن خطبة له عليهالسلام (٢) :
الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد (٣) ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ولا تحجبه السواتر الدال على قدمه بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده وباشتباههم على أن لا شبه له الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده وقام بالقسط في خلقه وعدل عليهم في حكمه مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته وبما وسمها به من العجز على قدرته وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه.
واحد لا بعدد ودائم لا بأمد وقائم لا بعمد تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة (٤) وتشهد له المرائي لا بمحاضرة (٥) لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها وبها امتنع منها وإليها حاكمها (٦) ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا بل كبر شأنا وعظم سلطانا.
ومنها في الاستدلال عليه تعالى بعجيب خلقه من أصناف الحيوان وغيرها.
ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والأبصار مدخولة أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه وفلق له السمع والبصر وسوى له العظم والبشر.
__________________
(١) لم يتكأده : لم يشق عليه. لم يئوده : لم يثقله. الند : المثل المكاثرة لمغالبة بالكثرة. المساورة : المواثبة.
(٢) ج ٢ ص ١٣٧ من نهج البلاغة.
(٣) المراد بالشواهد : الحواس
(٤) أي : لا بطريق المشاعر والأحاسيس.
(٥) أي : المرئيات تشهد له بالوجود من غير أن يكون محسوسا معها.
(٦) أي : لم تحط به العقول بل بها تجلى وظهر وثبت وجوده لها وبالنظر والتعقل علمنا أنه ممتنع من أن تدركه العقول وجعل العقول السقيمة المدعية بالإحاطة به تعالى خصمه ، ثم حاكمها إلى العقول السليمة فحكمت عليها.