مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً ) (١) وأنزل عليه يا محمد ( فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ) (٢) الآية وأنزل الله عليه يا محمد ( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ) إلى قوله ( وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) (٣).
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله يا عبد الله أما ما ذكرت من أني آكل الطعام كما تأكلون وزعمت أنه لا يجوز لأجل هذا أن أكون لله رسولا فإنما الأمر لله تعالى ( يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) و ( يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) وهو محمود وليس لك ولا لأحد الاعتراض عليه بلم وكيف ألا ترى أن الله كيف أفقر بعضا وأغنى بعضا وأعز بعضا وأذل بعضا وأصح بعضا وأسقم بعضا وشرف بعضا ووضع بعضا وكلهم ممن يأكل الطعام ثم ليس للفقراء أن يقولوا لم أفقرتنا وأغنيتهم ولا للوضعاء أن يقولوا لم وضعتنا وشرفتهم ولا للزمنى (٤) والضعفاء أن يقولوا لم أزمنتنا وأضعفتنا وصححتهم ولا للأذلاء أن يقولوا لم أذللتنا وأعززتهم ولا لقباح الصور أن يقولوا لم قبحتنا وجملتهم.
بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادين وله في أحكامه منازعين وبه كافرين ولكان جوابه لهم أنا الملك الخافض الرافع المغني المفقر المعز المذل المصحح المسقم وأنتم العبيد ليس لكم إلا التسليم لي والانقياد لحكمي فإن سلمتم كنتم عبادا مؤمنين وإن أبيتم كنتم بي كافرين وبعقوباتي من الهالكين.
ثم أنزل الله عليه يا محمد ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) يعني آكل الطعام و ( يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) (٥) يعني قل لهم أنا في البشرية مثلكم ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال دون بعض من البشر فلا تنكروا أن يخصني أيضا بالنبوة.
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوآله وأما قولك هذا ملك الروم وملك الفرس لا يبعثان رسولا إلا كثير المال عظيم الحال له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده فإن الله له التدبير والحكم لا يفعل على ظنك وحسبانك ولا باقتراحك بل ( يَفْعَلُ ما يَشاءُ ) و ( يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) وهو محمود يا عبد الله إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى ربهم ويكد (٦) نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها وعبيد وخدم يسترونه عن الناس أليس كانت الرسالة تضيع والأمور تتباطأ أوما ترى الملوك إذا احتجبوا كيف يجري الفساد والقبائح من حيث لا يعلمون به ولا يشعرون.
يا عبد الله إنما بعثني الله ولا مال لي ليعرفكم قدرته وقوته وأنه هو الناصر لرسوله ولا تقدرون على قتله ولا منعه في رسالاته فهذا بين في قدرته وفي عجزكم وسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلا وأسرا ثم يظفرني الله ببلادكم ويستولي عليها المؤمنون من دونكم ودون من يوافقكم على دينكم.
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوآله وأما قولك لي لو كنت نبيا لكان معك ملك يصدقك ونشاهده بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيا لكان إنما يبعث ملكا لا بشرا مثلنا فالملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لا عيان منه ولو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر ،
__________________
(١) الفرقان : ١٠.
(٢) هود : ١٢.
(٣) الأنعام ٨ و ٩.
(٤) الزمنى : الذين ألم بهم المرض ، المرضى.
(٥) الكهف : ١١٠.
(٦) الكد : الالحاح والشدة في الطلب.