ولسائل أن يسأل أين غاب اللعن الّذي كان يقوله الإمام في الكوفة عن ابن عباس بالبصرة؟
فنقول له : وإن لم نجد ذلك صريحاً فيما تقدّم من الآثار ، إلاّ أنّي أرى ذلك بدلالة ما تقدم من أنّ لعن الإمام لمعاوية وأشياعه لأنّهم من المحاربين فقنت عليهم يدعو باللعن ، ولمّا سئل عن ذلك قال : (استنصرنا عليهم). فابن عباس أيضاً كان معه يومئذ ولمّا أتى البصرة فهو لا يزال في حالة حرب مع أولئك ، ولمّا كان يقنت فيرفع يديه حتى يمدّ بضبعيه فذلك منه مبالغة في التضرّع وطلب النصر من الله تعالى ، ولو لم يكن كذلك ، لما بالغ تلك المبالغة ، ولمّا قرأ على المأمومين قوله تعالى : ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) (١) أراد ـ والله أعلم ـ ليقطع على من لا يرى ذلك ما يدور في هاجسه ، لأنّ في البصرة من العثمانية ممّن لا يرضى بالحكم القائم وقد مرّت بنا شواهد على ذلك.
فهو بقراءته الآية الكريمة ضمن ما يتلو من دعاء كأنّه يخاطبهم بالصبر على ما يسمعون ، ويفهمهم شرعية فعله فلا يسخطون فإنّ من معاني قوله تعالى : ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) (٢) طول القيام (٣) ، وكأن ذلك مأخوذ من المعنى اللغوي في أصل القنوت الّذي هو الدوام على الشيء ، والله أعلم. وفوق كلّ ذي علم عليم.
عاد ابن عباس إلى البصرة ، فوجد أجواءها مكفهّرة بالإشاعات والأكاذيب ، ووجد الخوارج تنقّ أصواتهم مع العثمانية في نقد الحكم القائم ، فكانت البصرة ـ
____________
(١) البقرة / ٢٣٨.
(٢) البقرة / ٢٣٨.
(٣) أنظر الجامع لاحكام القرآن للقرطبي ٣ / ٢١٤.