ليلة كان الموت أقرب إلى المقاتلين من حبل الوريد ، لم تغمد السيوف ولم تسكن الرجال ـ وكانت تلك ليلة الجمعة ـ اقتتل الناس فيها حتى الصباح ، فتضاربوا بالسيوف حتى أعذرت ، وتطاعنوا بالرماح حتى تقصّفت ، وتراموا بالنبل والحجارة حتى فنيت ، لم يصلّوا لله إلاّ إيماء ـ صلاة الخوف والمطاردة ـ لشدّة الجلاد والمسايفة ، حتى بلغ من قتالهم أن تكادموا بالأفواه والفارس يعتنق الآخر مثله فيقعان معاً إلى الأرض عن فرسيهما. وهذا هو الموقف الّذي توعدّ به ابن عباس معاوية حين هدده فيما كتب به إليه (وقد بقي لك منّا يوم ينسيك ما قبله).
فقد روى السيّد ابن طاووس عن ابن عباس قال : « قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام) ليلة صفين : أما ترى الأعداء قد أحدقوا بنا؟ فقال : وقد راعك هذا؟ قلت : نعم. فقال : اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أضام في سلطانك ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أضلّ في هداك ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتقر في غناك ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أضيع في سلامتك ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أُغلب والأمر إليك (لك) » (١).
قال أبو مخنف : « فاقتتل الناس تلك الليلة كلّها حتى الصباح ، وهي ليلة الهرير ، حتى تقصّفت الرياح ونفد النبل ، وصار الناس إلى السيوف ، وأخذ عليّ يسير فيما بين الميمنة والميسرة ، ويأمر كلّ كتيبة من القرّاء أن تقدم على الّتي تليها ، فلم يزل يفعل ذلك بالناس ، ويقوم بهم حتى أصبح ، والمعركة كلها خلف
____________
(١) مهج الدعوات / ١٠٣ ط حجرية سنة ١٣٢٣ ، والأمان من أخطار الأسفار والأزمان / ١١٤ط الحيدرية سنة ١٣٧٠.