وبنيه ، وذكر الحجاج وما يسومهم من العذاب ، فارتفع الضجيج وكثر البكاء والشهيق ، فقام قائم من الناس فقال : يا أمير المؤمنين لقد وصفت أموراً عظيمة الله إنّ ذلك لكائن؟
فقال عليّ : والله إنّ ذلك لكائن ما كذبت ولا كُذبت.
فقال آخرون : متى يكون ذلك يا أمير المؤمنين؟
قال : إذا خضبت هذه من هذه ، ووضع إحدى يديه على لحيته والأخرى على رأسه فأكثر الناس من البكاء ، فقال : لا تبكوا في وقتكم هذا فستبكون بعدي طويلاً.
فكاتب أكثر أهل الكوفة معاوية سراً في أمورهم واتخذوا عنده الأيادي ، فوالله ما مضت إلاّ أيام قلائل حتى كان ذلك (١).
فكلّ أولئك الحضور بدءاً بالمتماسك أو المتمسك بولائه إلى المجاهر بعدائه وما بينهما من تفاوت الدرجات كانت شرائح المجتمع الكوفي الّذي واجهه ابن عباس بخطابه مستعلماً نواياه ، ولمّا بكى الناس علم ابن عباس أنّ ذلك البكاء عاطفة ورثاء ، ومع ذلك فقد استروح من تلك العاطفة روح استجابة ، ولم تخل من بارقة أمل ورجاء ، والأمل دائماً يعمر القلوب المؤمنة بصحة القضية الّتي تؤمن بها وتدعو إليها ، ويشدّ من عزيمتها. لذلك عاد إلى الدار وأخبر الإمام الحسن (عليه السلام) بما قاله للناس وبما قالوه له. فخرج الإمام وعليه ثياب سود ـ كما يقول المدائني في روايته (٢).
____________
(١) أنظر مروج الذهب ٢ / ٤٣٠ ط السعادة تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.
(٢) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ٨ ط الأولى.