واختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ولوُفقّت وأصابت (١).
أليس هذا هو المبدأ الثابت والمعلن من رأي ابن عباس؟ إذن فما الّذي يعنيه بقوله : إن أحببتم ... وإن كرهتم ...؟
إنّه فيما أرى الاستكشاف للخبايا ، والاستعلام للنوايا الّتي انطوت في نفوس ذلك المجتمع المتمزّق المتفرّق ، الّذي يضم أنماطاً شتى ، فمن أقصى اليمين المؤمن المتماسك أمثال حجر بن عدي وعدي بن حاتم وقيس بن سعد بن عبادة وسعيد بن قيس الهمداني وآخرين وقليل ما هم. إلى أقصى اليسار المناوئ كشبث بن ربعي وابن الكواء وبقية الخوارج الّذين ما زالت غدرتهم واضحة ، وما بين أولئك وهؤلاء أنماط منافقون متربصون كالأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله وآخرين أضرابهما ، وسوى هؤلاء من المتخاذلين ممّن لم يتخلّفوا عن وصفهم بما قال الله تعالى : ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون ) (٢) ، وأعطف عليهم عشائر الّذين انتقل ولاؤهم إلى معاوية حين فارقوا الإمام كمصقلة بن هبيرة وأمثاله ، ولم يكن لتخفى على ابن عباس دخائل تلك النفوس المراض الّذين كانوا يكاتبون معاوية سراً في أمورهم واتخذوا عنده الأيادي منذ أيام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
وكيف يخفى عليه ذلك ، وهو بالأمس القريب مقيم بين ظهرانيهم يسمع كلام الإمام يخطب فيهم ويذكر فيه أيام معاوية لهم ومن تلاه من يزيد ومروان
____________
(١) لقد تقدم في الجزء الثاني فراجع.
(٢) البقرة / ١٤.