وصفها عن الإمام ـ فإنّ جند الشيطان بها كثير ، ولا ريب أنّهم يطمعون في التسلل إلى مراكز القوة لنيل أمانيهم ، وهل مطمع فوق مركز رأس السلطة ، فمتى نفذوا إليه واستحوذوا عليه ، تمّ لهم ما أرادوا ونالوا مبتغاهم ، ولا يضيق السبيل على ابليس وجنده ، ولهم في النميمة خير وسيلة لاختداع الوالي والتقرب منه ، وتلك سيرتهم مع الولاة والحاكمين في كلّ زمان ومكان ، فإن وجدوا أذناً صاغية لقد نجحوا في مسعاهم ونالوا مبتغاهم ، وإن لم يجدوا وكان الوالي له أذن عن الفحشاء صمّاء مثل ابن عباس ، فليس أبور من سلعتهم ، إذ لا نَفَاق للنِفَاق ، وقد ابتلي ابن عباس في ولايته بنماذج من يريدون أن يأكلوا المال بالباطل ، فمنهم النمامّون ، ومنهم الشعراء الهجّاؤن الذين يثلبون أعراض الناس ، وأضراب أو لا وأولئك كثيرون.
غير أنّه بما أتاه الله من قوة الشخصية مع حدّة الفهم وبُعد النظر ما ينفذ به إلى بواطن الأمور ، وكان على حدّ قول الإمام فيه ، وهو مربّيه ومولّيه : (كأنّما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق) (١) ، ثمّ هو على حدّ وصفه له في خطبة ولايته بالفقه والتقوى والورع ، فلمّا كان كذلك كان من الطبيعي أن لا يفسح المجال أمام الإنتهازيين ، فكان شديداً بلا عُنف ، وليّناً بلا ضعف.
وإلى القارئ نموذجَين من مواقفه : أحدهما مع نمّام ، وآخر مع هجّاء.
فقد روي أنّ رجلاً أتاه بنميمة ، فقال له : يا هذا إن شئت سألنا عما جئت به ، فإن كنت صادقاً مقتناك ، وإن كنت كاذباً عاقبناك ، وإن شئت أقلناك ، فاستعفى الرجل ، ومن الطبيعي أن يعرف ذلك المتزلّفون إلى الحكّام بالنميمة ، فقد
____________
(١) جاء في فيض القدير للمناوي ١ / ٦٠ قال فيه ـ ابن عباس ـ عليّ كرّم الله وجهه (كأنّما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق).