من غير جارحة ، فالبَصَرُ في حقه تعالى عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات.
وَفِي الْحَدِيثِ « سَمَّيْنَاهُ بَصِيراً لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ شَخْصٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ نَصِفْهُ بِبَصَرِ لَحْظَةِ الْعَيْنِ.
قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) [ ٦ / ١٣ ] أي لا تراه العيون لأن الإدراك متى قرن بالبصر لم يفهم منه إلا الرؤية ، كما أنه إذا قرن بآلة السمع فقيل » أدركته بأذني « لم يفهم منه إلا السماع ، وكذا إذا أضيف إلى كل واحد من الحواس أفاد ما بتلك الحاسة آلته ، مثل » أدركته بفمي « أي وجدت طعمه ، و « أدركته بأنفي » أي وجدت رائحته ، والمعنى لا تدركه ذو الأبصار ( وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ) أي المبصرين. ويقال ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ) أي الأوهام.
وَفِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ » الْأَشْيَاءُ لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ : الْحَوَاسِّ وَالْقَلْبِ ، وَالْحَوَاسُّ إِدْرَاكُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : إِدْرَاكٌ بِالْمُدَاخَلَةِ ، وَإِدْرَاكٌ بِالْمُمَاسَّةِ ، وَإِدْرَاكٌ بِلَا مُدَاخَلَةٍ وَلَا مُمَاسَّةٍ. فَأَمَّا الْإِدْرَاكُ الَّذِي بِالْمُدَاخَلَةِ فَالْأَصْوَاتُ وَالْمَشَامُّ وَالطُّعُومُ ، وَأَمَّا الْإِدْرَاكُ بِالْمُمَاسَّةِ فَمَعْرِفَةُ الْأَشْكَالِ مِنَ التَّرْبِيعِ وَالتَّثْلِيثِ وَمَعْرِفَةُ اللَّيِّنِ وَالْخَشِنِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَأَمَّا الْإِدْرَاكُ بِلَا مُمَاسَّةٍ وَلَا مُدَاخَلَةٍ فَالْبَصَرُ ، فَإِنَّهُ يُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ بِلَا مُمَاسَّةٍ وَلَا مُدَاخَلَةٍ فِي حَيِّزِ غَيْرِهِ وَلَا فِي حَيِّزِهِ ، وَإِدْرَاكُ الْبَصَرِ لَهُ سَبِيلٌ وَسَبَبٌ فَسَبِيلُهُ الْهَوَاءُ وَسَبَبُهُ الضِّيَاءُ ، فَإِذَا كَانَ السَّبِيلُ مُتَّصِلاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْئِيِّ وَالسَّبَبُ قَائِماً أَدْرَكَ مَا يُلَاقِي مِنَ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْخَاصِ ، فَإِذَا حُمِلَ الْبَصَرُ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ لَهُ فِيهِ رَدَّ رَاجِعاً فَحَكَى مَا وَرَاءَهُ كَالنَّاظِرِ فِي الْمِرْآةِ لَا يَنْفُذُ بَصَرُهُ فِي الْمِرْآةِ وَكَذَلِكَ النَّاظِرُ فِي الْمَاءِ الصَّافِي يَرُدُّ رَاجِعاً فَيَحْكِي مَا وَرَاءَهُ إِذْ لَا سَبِيلَ لَهُ فِي إِنْفَاذِ بَصَرِهِ. وَأَمَّا الْقَلْبُ فَإِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الْهَوَاءِ ، فَهُوَ يُدْرِكُ جَمِيعَ مَا فِي الْهَوَاءِ ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَحْمِلَ قَلْبَهُ عَلَى مَا لَيْسَ مَوْجُوداً فِي الْهَوَاءِ مِنْ أَمْرِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَوَهَّمْ إِلَّا فِي الْهَوَاءِ