فإنْ قيل : كون الشكّ ممّا يزول بأدنى تروٍّ إنّما يعلم بعد التروّي ، وحينئذٍ فلا معنى للحكم بوجوب التروِّي فيه ؛ لأنّه قبل التروّي لا يعلم كونه ممّا يجب فيه ذلك ، وبعده يكون التروّي حاصلاً ، فالحكم بإيجاده حينئذٍ تحصيل للحاصل أو للزائد على الواجب.
قلنا : إذا فرض أنّ مقتضى الدليل عدم جريان حكم الشكّ على ما يزول بالتروّي اليسير واختصاصه بما لا يزول إلّا بالتروّي الكثير ، فلا بدّ من التروّي مقدّمةً لاستعلام حال الشكّ ومعرفة دخوله في الشكوك التي جعل الشارع لها حكماً وعدمه ، فإذا زال بأدنى تروٍّ فقد حصل المطلوب من التروّي ، وإلّا جرى عليه حكم الشكوك المنصوصة.
وكذا الحال في التروّي بالمعنى الأخير ، بمعنى أنّه أيضاً يحكم بوجوبه ، ويُعلم وجهه ممّا ذكرنا في التروّي بالمعنى الثاني ؛ لأنّه لمّا كان موضوع الأدلّة خصوص الشكّ الذي هو تساوي الطرفين ، فلا بدّ حينئذ من إحرازه وتعيين الشكّ العارض منه لا ممّا يترجّح فيه أحد الطرفين ، وهو إنّما يحصل بالتروّي ، فيجب مقدّمة له.
وأمّا المعنى الثالث فالظاهر أنّه المتنازع فيه دون الثلاثة الأُخر ، فإنّها على الظاهر ممّا لا نزاع في وجوبها ، والحقّ عدم وجوبه بهذا المعنى ؛ لعدم الدليل عليه ، ومخالفته لمقتضى إطلاق أدلّة أحكام الشكوك ؛ لدلالته على وجوب العمل بمقتضاها بمجرّد عروض الشكّ ، والتقييد بما بعد التروّي واختصاصه بذلك لا دليل عليهما.
استدلّ الموجبون بما دلّ على أنّه إذا شكّ المصلّي فليتحرّ ، وما دلّ على أنّ الشاكّ ينظر ما هو الأحرى إلى الصواب فيعمل عليه ، وباستلزام عدمه الوقوع في خلاف الواقع كثيراً فيجب التروّي احترازاً عن ذلك ، وبدلالة بعض الأخبار (١) على أنّه إذا شكّ في الصلاة فإنْ ترجّح أحد طرفي الشكّ على الآخر بنى عليه ، وإنْ اعتدلا
__________________
(١) الكافي ٣ : ٣٥٢ / ٥ ، ٣٥٣ / ٨ ، الوسائل ٨ : ٢١٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٠ ، ح ٤ ، ٥.