والقرآن الكريم يثير في هذا المقطع حالة طائفة ، فيقول تعالىٰ : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ) (١).
فهؤلاء يفهمون انما يرزقهم الناس الذين من حولهم ، ويجهلون أنهم لا يملكون شيئاً من الرزق ، ولا يستطيعون ذلك ، وينطلقون بذلك مما ألفوه واستأنسوا به في حياتهم الدنيا ، فرفض القرآن الكريم هذا المقياس ، ونهاهم عن هذا التشبيه القبيح ، ومقايسة الغيب بالمحسوس ، فكيف إذن يشبّهون الله سبحانه بصفات مادية حادثة ( فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٢).
وقد أوضح القرآن الكريم ذلك مستعيناً بواقعهم نفسه بتشبيه هذه الحالة بالفارق الكبير بين العبد المملوك الفاقد للإرادة الذي لا يملك شيئاً ولا يقدر عليه ولا يُنتظر منه أي عطاء ، وبين آخر حرّ ينفق بإرادته سرّاً وعلناً مما رزقه الله.
ثمّ ضرب القرآن للمعنىٰ ذاته مثالاً آخر مبيناً الفارق الكبير بين الأبكم أي الأخرس الذي لا يفهم أحداً ، ولا يقدر علىٰ صنع شيء أو تأديته ، وأنه كلّ وعيال وعبء علىٰ مولاه الذي يتولّىٰ أمره ، مضافاً إلىٰ ذلك أنه لا ينتفع منه خيراً في أي وجهة يتوجّه إليها ، هذا كلّه من جهة ، وبين الذي يأمر بالعدل وهو علىٰ صراط مستقيم ، وهاتان الصفتان تكشفان عن شخصية معتدلة متزنة
_______________________
(١) سورة النحل : ١٦ / ٧٣.
(٢) سورة النحل : ١٦ / ٧٤.