كفا شرفا أنّى مضاف إليكم |
|
وأنّى بكم أدعى وأرعى وأعرف |
وقال كعب الأحبار : اختاره الله تعالى من أحب البلاد ، وأحب البلاد إلى الله البلد الحرام.
وعن عثمان بن ساج قال : بلغنا أن إبراهيم عليهالسلام عرج به إلى السماء ، فنظر إلى الأرض مشارقها ومغاربها فاختار موضع الكعبة ، فقالت الملائكة : يا خليل الرحمن اخترت حرم الله فى الأرض (١).
ويحكى عن وهب بن منبّه ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : وجد فى أساس الكعبة لوح مكتوب فيه : لكل ملك حيازة مما حواليه ، وبطن مكة حوزتى التى اخترتها لنفسى دون خلقى ، أنا الله ذو بكة ، وأهلها جيرتى وجيران بيتى ، وعمارها وزوارها وفدى وأضيافى وفى كنفى وأمانى ضامنون علىّ وفى ذمتى وجوارى ، من أمّنهم فقد استوجب بذلك أمانى ، ومن أخافهم فقد أخفرنى فى ذمتى.
تأمل يا ولى الله سر هذه النسبة الإلهية وحاصل هذا التفضيل ، ولا حظ بعين التفكر وأذن التدبر هذه الإشارة ولطيفة هذا التمثيل : لما كان لكل ملك محل يقصد فيه لأداء خدمته ، ولكل سلطان باب تعفر الجباه على عتبته ، ولكل باب حيازه يلجأ إليها من لاذ بجنابه ، ولكل سخى ساحة يفد إليه من رغب فى ثوابه ، اختص الله تعالى هذا البيت المشرف بهذه المعانى ، واطلع فى أفق قصده شموس الظفر وبدور الأمانى ، وصير ما حواليه حرما له تحقيقا لعظمته ، وجعل عرفة كالميزان على فناء حرمه ، ووضعه على مثال حضرة الملوك يقصدها الوفاد من كل جهة ، ويفد إليها القصاد من كل مكان وبقعة ، شعثا غبرا ، متواضعين مستكينين ، خاضعين إذعانا لجلال ملكوته ، وانقيادا لعزته وجبروته ، مع تنزيهه سبحانه وتعالى أن يحويه بيتا ويكنفه بلدا. أو يشبهه فى حقيقة ما ضرب له من المثال أحد.
والحكمة فى ذلك : بيان أسرار العظمة الإلهية ، وإيضاح آثار سطوتها ، وإظهار انقياد ملوك الأرض والجبابرة إلى إجابة دعوتها ؛ فيذل هنالك منهم العزيز ، وتخضع العبيد ، وينطفئ نور من سواها ؛ لاستيلاء أنوارها ، وتصير بحار ذوى
__________________
(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٢١ ، سبل الهدى والرشاد ١ / ١٨٢.