وغرة دهره ، خصّ من محل العلم بأرفعه وأعلاه ، وقسم له من الفهم أجزل الحظ وأوفاه ، حتى أدركه من سبقه يتقدم زمانه ، ويبرز على من عاصره من شيوخه وأقرانه ، وأما عبد الغني بن سعيد فيه تبصّر ، وغرف من بحره استقى واغترف.
سمعت أبا نصر محمّد بن سعيد المؤدب الشيباني المعروف بابن الفرج يقول : قلت لأبي بكر الخطيب عند لقائي إياه : أنت الشيخ الحافظ أبو بكر؟ فقال : انتهى الحفظ إلى أبي الحسن الدار قطني.
أخبرنا أبو منصور محمّد بن عبد الملك ، أنا ـ وأبو الحسن بن سعيد ، نا ـ أبو بكر الخطيب (١) ، حدّثني الأزهري قال : رأيت محمّد بن أبي الفوارس ـ قد سأل أبا الحسن الدار قطني ـ عن علّة حديث ، أو اسم فيه ، فأجابه ، ثم قال له : يا أبا الفتح ليس بين الشرق والغرب من يعرف هذا غيري.
قال (٢) : وسمعت القاضي أبا الطّيّب الطّبري يقول : حضرت أبا الحسن الدارقطني وقد قرأت عليه الأحاديث التي جمعها في الوضوء من مس الذكر فقال : لو كان أحمد بن حنبل حاضرا لاستفاد من هذه الأحاديث.
قال (٣) : وسألت البرقاني قلت له : هل كان أبو الحسن الدار قطني يملي عليك العلل من حفظه؟ فقال : نعم ، ثم شرح لي قصة جمع العلل ، فقال : كان أبو منصور ابن الكرخي يريد أن يصنّف (٤) مسندا معللا ، فكان يدفع أصوله إلى الدار قطني يعلّم له على الأحاديث المعلّلة ، ثم يدفعها أبو منصور إلى الورّاقين فينقلون كل حديث منها في رقعة ، فإذا أردت تعليق كلام الدار قطني على الأحاديث نظر فيها أبو الحسن ثم أملى علي الكلام من حفظه فيقول : حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود الحديث الفلاني ، اتفق فلان وفلان على روايته وخالفهما فلان ، ويذكر جميع ما في ذلك الحديث ، فأكتب كلامه في رقعة مفردة ، وكنت أقول له : لم تنظر قبل إملائك الكلام في الأحاديث ، فقال : أتذكر ما في حفظي بنظري ، ثم مات أبو منصور والعلل
__________________
(١) تاريخ بغداد ١٢ / ٣٩ وسير أعلام النبلاء ١٦ / ٤٥٤.
(٢) القائل أبو بكر الخطيب ، والخبر رواه في تاريخ بغداد ١٢ / ٣٨.
(٣) تاريخ بغداد ١٢ / ٣٧.
(٤) إعجامها مضطرب بالأصل ، والمثبت عن تاريخ بغداد.