ركّز الجاحظ على وظيفة البيان فحصرها في التعبير الواضح عن المعنى الخفيّ. فكيف يوفّق الشاعر أو المبدع إلى حلّ هذه الإشكالية؟ يوضّح الجاحظ هذا الرأي ، أو هو يحاول توضيحه بقوله (١) : «والبيان : اسم جامع لكلّ شيء كشف لك قناع المعنى ، وهتك الحجاب دون الضّمير ، حتّى يفضي السامع إلى حقيقته ، ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان ، ومن أيّ جنس كان الدليل ؛ لأنّ مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع ، إنّما هو الفهم والإفهام ، فبأيّ شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى ، فذلك هو البيان في ذلك الموضع».
فالمعنى في نظر الجاحظ مقنّع ومضمر وعلى المبدع أن يكشف هذا القناع ، ويظهر هذا المضمر المستكنّ في النفوس لأنّ غاية الأمر الفهم والإفهام بأية طريقة وبأي وسيلة. هذا الكلام على الوضوح والإظهار والإبانة أهمل العناية بالجانب الفنّي ، أي الطريقة الواجب اعتمادها للكشف عن المعاني المضمرة. ففنّية التعبير هي الجانب الذي يعنى به البيان لا الكلام كيفما اتّفق.
وبقي فهم الجاحظ للبيان سائدا إلى أن ظهر كتاب السّكاكي (ت ٦٢٦ ه) (مفتاح العلوم) الذي غدا فيه البيان علما مستقلا من علوم البلاغة الثلاثة. وقد عرّفه السكّاكي بقوله (٢) : «هو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه وبالنقصان ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه» وموضوعات البيان عند السكّاكي وتلاميذه هي : التشبيه والمجاز والكناية.
__________________
(١). مفتاح العلوم ، السكّاكي ، ص ١٦٢.
(٢). مفتاح العلوم ، السكّاكي ، ص ١٦٢.