«من» : بيانية ، أي : الذي هو الإيمان ، (إذ لم يبق) بعد حصول الجزم المذكور (سوى الاستدلال ، ومقصود الاستدلال هو حصول ذلك الجزم ، فإذا حصل) المكلف (ما هو المقصود منه) أي : من الاستدلال فقد (تم قيامه بالواجب).
(ومقتضى هذا التعليل أن لا يكون عاصيا بعدم الاستدلال) أي : بتركه ؛ (لأن وجوبه) أي : الاستدلال (إنما كان ليحصل ذلك) الجزم ، (فإذا حصل سقط هو) أي : وجوب الاستدلال الذي هو وسيلة ، إذ لا معنى لاستحصال المقصود بالوسيلة بعد حصوله دونها.
(غير أن بعضهم ذكر الإجماع على عصيانه) بترك الاستدلال ، (فإن صح) ما نقله هذا البعض من الإجماع (١) (فبسبب) أي فعصيانه بسبب (أن التقليد عرضة) أي : معرض (لعروض التردد) للمقلد بعد جزمه ، وذلك (بعروض) أي : بسبب عروض (شبهة) له ، (بخلاف الاستدلال) المحصل للجزم (فإن فيه) أي : في الاستدلال (حفظه) أي : حفظ الجزم عن عروض التردد بعده.
وقوله : (ولأن) عطف على التعليل السابق بقوله : «إذ لم يبق» ، وهو تعليل ثان لقيام المقلد بالواجب من الإيمان ، وهو أن (الصحابة) رضي الله عنهم (كانوا يقبلون إيمان عوام الأمصار التي فتحوها من العجم) بيان لقوله : عوام حال كون إيمانهم صادرا (تحت السيف) ولات حين استدلال ، (أو لموافقة بعضهم بعضا) بأن يسلم زعيم منهم مثلا فيوافقه غيره.
(وتجويز حملهم إياهم) أي : حمل الصحابة عوام الأمصار أو حمل البعض السابق بالإيمان البعض الموافق له (على الاستدلال بعيد في بعض الأحوال ، التي
__________________
(١) الإجماع على عصيان تارك الاستدلال جزم به الجويني في كتابه الإرشاد إلى قواطع الأدلة من الاعتقاد ، عند ما قال : إن أول واجب يجب على الإنسان لما يبلغ النظر المؤدي إلى العلم بحدوث العالم وغيره ، ولكن البعض قال : إن النظر محل ظن الوقوع في احتمالات موجبة لشكوك وأوهام مخلة بالتصديق الإيماني الذي قد يحصل دفعيا ؛ فهذا القول خرق الإجماع ، وطعن في صحة وقوعه. لكن البعض رد بأن مقصودهم من النظر الموجب للشكوك : النظر غير الصحيح ، بينما الإجماع والاتفاق على النظر الصحيح المبني على الأدلة القطعية. (انظر : تيسير التحرير لأمير باد شاه ، ٤ / ٢٤٥) ، لكن علي القاري أشار إلى أن أبا حنيفة يصحح إيمان المقلد ، وأضاف معه سفيان الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد ، وقال : ولكنه عاص بترك الاستدلال ، بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك. انظر : شرح الفقه الأكبر ، ص ٢١٦.