التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران ، ولا يمكن أحدا ان يدعى أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي ، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على ترتيب الزمان ، فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ، ثم القرآن وهذه الكتب نور الله وهداه ، وقال في الأول : «جاء وظهر» وفي الثاني «اشرق» وفي الثالث «استعلن» فكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر ، ونزول الإنجيل مثل اشراق الشمس ، ونزول القرآن بمنزلة ظهور الشمس في السماء ، ولهذا قال : «واستعلن من جبال فاران» فان محمدا صلىاللهعليهوسلم ، ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها اعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين كما يظهر نور الشمس في مشارق الأرض ومغاربها إذا استعلنت وتوسطت السماء ؛ ولهذا سماه الله (سراجا منيرا) وسمى الشمس (سراجا وهاجا) والخلق يحتاجون إلى السراج المنير اعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج ، فان هذا يحتاجون إليه في وقت دون وقت ، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان ليلا ونهارا سرا وعلانية ، وقد ذكر الله تعالى هذه الأماكن الثلاثة في قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين : ١ ـ ٢ ـ ٣] ، فالتين والزيتون هو في الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح ، وأنزل عليه فيها الإنجيل (وَطُورِ سِينِينَ) [التين : ٢] ، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليما وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة التي فيه ، واقسم ب (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين : ٣] ، وهو مكة التي أسكن إبراهيم وإسماعيل وأمه فيه وهو فاران كما تقدم ، ولما كان في التوراة خبرا عن ذلك أخبر به على الترتيب الزماني ، فقدم الأسبق ، ثم الذي يليه ، وأما القرآن فأنه أقسم بها تعظيما لشأنها واظهارا لقدرته وآياته وكتبه ورسله ، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة ، فبدأ بالعالي ، ثم انتقل إلى أعلا منه ، ثم أعلا منهما فإن أشرف الكتب القرآن ، ثم التوراة ، ثم الإنجيل ، وكذلك الأنبياء.
(فصل) وهذا الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من علماء المسلمين. من تأمل التوراة وجدها ناطقة به صريحة فيه فإن فيها «وعد إبراهيم فأخذ الغلام وأخذ خبزا وسقاء من ماء ودفعه إلى هاجر وحمله عليها ، وقال لها اذهبي ، فانطلقت