ثمّ اعلم أنّ العلّة المعدّة عند التحقيق علّة بالعرض ، وليست علّيتها كعلّية العلل الموجبة حتّى يقتضي زوالها زوال المعلول. وما ذكروه من قولهم كلّ ما لا حامل لإمكان وجوده وعدمه ، فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم ، ولا أن يعدم بعد الوجود ، لا يستلزم القول بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده وعدمه ، فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد الوجود ، إذ ربما يكون وجوده السابق كافيا في رجحان وجوده اللاحق على عدمه ، فلا يحتاج في وجوده البقائي إلى حامل وقابل لإمكانه.
ومن نظر وأمعن في مراتب الأكوان الخلقيّة الإنسانيّة قبل حدوث النفس ، وجد أنّ مادة النطفة أي حامل إمكان الصورة الجمادية النطفية ، بعد أن تصوّرت بصورتها واستكملت بها ، زال عنها ذلك الإمكان ولم يزل عنها تلك الصورة ، بل صارت أقوى وأكمل ممّا كانت أوّلا ، حيث صارت صورة نباتية بحسب إمكانها الاستعدادي النباتي. وصورة النبات ، لا تقصر عن فعل الجماد أيضا ، وكذا الحال في صيرورتها صورة حيوانيّة ، لما حقّق في موضعه أن هذه الاستكمالات المترادفة والانقلابات ليس إلّا ضربا من الاشتداد الجوهري ، لا بأن تفسد صورة وتحدث صورة اخرى مباينة للاولى ، كيف والحكماء أثبتوا للطبائع حركة حبيّة إلى غايات ذاتية البتّة ، ولكلّ ناقص شوقا غريزيّا إلى كماله.
وكلّ ناقص إذا وصل إلى كماله اتحد به وصار وجوده وجودا آخر ، وهذه الحركة الحبيّة في هذا النوع الإنساني إلى جانب القدس معاين مشهود لصاحب البصيرة ، فإذا بلغت النفس الإنسانيّة في استكمالاتها وتوجّهاتها إلى مقام العقل واتحدت بالعقل الفعّال بعد أن كانت عقلا منفعلا ، اطلقت عن المادة والحدثان وتجرّدت عن القوّة والإمكان ، وصارت باقية ببقاء الله سبحانه من غير تغيير وفقدان.
وبالجملة تحقيق هذا المبحث وتنقيحه ، إنّما يتيسّر لمن علم كيفيّة اتحاد النفس بالعقل الفعّال ومصيرها إلى العقل الفعّال ، وكل ميسّر لما خلق له. ـ انتهى كلامه رحمهالله. (١)
وقال أيضا في الشواهد الربوبية : الإشراق السادس في حدوث النفس الإنسانيّة ، اعلم أنّ نفس الإنسان جسمانيّة الحدوث ، روحانيّة البقاء ، إذا استكملت خرجت من القوّة إلى
__________________
(١) راجع هامش المبدأ والمعاد : ٣٧٨ ـ ٣٨٢.