في بقاء النفوس
فنقول : إنّك إذا تأمّلت فيما ذكرنا من الدليل العقلي على بقاء النفس الناطقة الإنسانيّة أمكنك أن تجريه في بقاء نفس الجنّ أيضا إذا قيل : بأنّ نفوسهم أيضا كنفوس الإنسان مجرّدة عن الموادّ بحسب ذواتها ، متعلّقة بأبدانهم نحوا من التعلّق ، مرتبطة بها نوعا من الارتباط والتدبير والتصرّف ، وإن كانت أبدانهم مخالفة لأبدان الإنسان ، فيظهر لك أنّه بفساد أبدانهم لو فرضنا فسادها ، لا تفسد نفوسهم ، بل تبقى بعد خرابها أيضا.
وهذا مع قطع النظر عن أنّ الشرع دلّ على بقاء بعض أنواعهم ، أو أصنافهم كالشيطان ، حيث دلّ على أنّه من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
وكذلك أمكنك أن تجريه في بقاء العقول المجرّدة عن المادّة في ذواتها وأفعالها جميعا ، لو قيل بها ، وإن لم نقل بقدمها ، بل بحدوثها ، بل إنّ جريان ذلك الدليل في العقول أتمّ وأظهر ، إذ ليس لها أبدان ، ولا احتياج أصلا إلى المادّة ، حتّى بحسب الفعل أيضا ، كي يمكن أن يقال بفسادها بفساد أبدانها ، ويجاب بذلك الجواب.
وكذلك أمكنك أن تجريه في الملائكة ، سواء قيل بأنّهم عقول مجرّدة عن المادّة مطلقا ، كما هو مذهب بعضهم ، أو قيل كما يدلّ عليه ظاهر الشرع ، بأنّهم كالإنسان عبارة عن مجموع نفس وبدن ، إلّا أنّ أبدانهم ليست كأبدان الإنسان ، بل هي أجسام لطيفة وجواهر نورانية في غاية اللطافة والنورانية ، كالأجسام السماوية أو ألطف منها وأنور. وكذلك نفوسهم المتعلّقة بتلك الأجسام في غاية التجرّد والتعقّل والعلم والإدراك.
فيظهر لك أنّه لو فرض انقطاع علاقة نفوسهم عن أبدانهم ، بسبب زوال أبدانهم أو بسبب آخر ، لكان تبقى نفوسهم بعد ذلك ببقاء موجدهم ومبدعهم الباقي.