وكذلك أمكنك أن تجريه في الأفلاك وما فيها ، لو قيل بأنّ لها نفوسا كليّة غير منطبعة فيها ، بل مجرّدة متعلّقة بأجرامها نوع تعلّق ، فيظهر لك أنّه بفساد أجرامها لو فرض فسادها ، لا تفسد نفوسها الكلّية المجرّدة.
وبالجملة انّك إذا تأمّلت فيما تلوناه عليك سابقا ، تبيّن لك أنّ كلّ ما هو مجرّد عن المادّة في ذاته من الموجودات ، سواء كان متعلّقا بها في أفعاله ، كالنفس المجرّدة ، أو لم يكن متعلّقا بها فيها كالعقل ، إن جوّزنا وجوده ، فهو من حيث تجرّده عن المادّة في ذاته ممّا لا يطرأ عليه الفساد والزوال من جهة ذاته بذاته ، سواء كانت تلك النفس نفسا ناطقة إنسانيّة ، أو جنّية أو ملكيّة أو فلكيّة ، وإنّما الفساد الذي يتصوّر بالنسبة إلى النفس ، إنّما هو فساد تعلّقها عن بدنها وعن الجسم الذي هو آلة لها في أفعالها ، وبذلك يمكن أن يتأوّل قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (١) على تقدير أن يراد بكلّ نفس هذا المعنى من النفس. وأن يتأوّل نظائر هذا ، ممّا ورد في الكتاب والسنّة ، وأنّه لا يتصوّر هذا ، أي فساد التعلّق أيضا بالنسبة إلى العقل أصلا ، حيث إنّ المفروض على تقدير جواز وجوده كونه غير متعلّق بالمادّة أصلا.
وبذلك استبان لك حال المجرّدات من الموجودات ، من جملة الأجزاء المخصوصة من العالم في كونها باقية بعد وجودها ، بقاء مستندا إلى علّة من خارج ، وإن كانت هي في ذواتها ممكنة الوجود والعدم.
__________________
(١) الأنبياء : ٣٥ ؛ آل عمران : ١٨٥.