لأنّ المادّيّ لا يوجد بمجرّد أمر الله تعالى ، كما هو ظاهر الآية ؛ بل إنّه وإن كان يوجد بأمر الله تعالى ، لكن لا به وحده ، بل بتوسّط المادّة أيضا ، وإن كانت المادّة أيضا موجودة بأمر الله تعالى. وكأنّه لذلك اصطلح الحكماء على أنّ المجرّدات من عالم الأمر ، وأنّ المادّيات من عالم الخلق. فافهم.
فإن قلت : ما ذكرت من أنّ الروح الإنسانيّة مقيمة مع الرّوح الحيوانيّة في مصرع بدن الإنسان ، أو في موضع من الأرض أودعت الروح الحيوانيّة فيه ، مخالف لما دلّت الأخبار الكثيرة عليه ، من أن الأرواح الإنسانيّة على صور أبدانهم فى قوالب مثاليّة ، وأن أرواح المؤمنين في ظهر الكوفة وفي شاطئ الفرات ، وأرواح الكفّار في وادي برهوت.
قلت : لا مخالفة في ذلك ولا منافاة ، فإنّ الروح الإنسانيّة حيث كانت مجرّدة عن المادّة ، والمجرّد ليس له في ذاته مكان خاصّ أو وضع خاصّ كما للمادّيّات ، فيمكن أن يكون لها تعلّقان : أحدهما بذلك القالب المثالي ، والآخر بمصرع بدنه ، وكانت هي في ضمن كلّ منهما ، إمّا في ضياء وفسحة كما في روح المحسن ، أو في ضيق وظلمة ، كما في روح المسيء ، وبذلك ينبغي أن يتأوّل ما ورد من أنّ ملك الموت يقبض في ساعة واحدة أرواح جمع كثير وجمّ غفير من الخلائق ، مع أنّ بعضهم في المشرق وبعضهم في المغرب. وما ورد من أنّه ما من أحد يحضره الموت ، إلّا مثّل له النبيّ والحجج صلوات الله عليهم حتّى يراهم ، فإن كان مؤمنا يراهم بحيث يحبّ ، وإن كان غير مؤمن يراهم بحيث يكره. فتبصّر.
وهذا بيان بقاء روح الإنسان بعد خراب جسده.
وأمّا بيان بقاء ما يبقى من بدنه وجسده بعد خرابه ، فهو أنّ البدن ، وإن كان يصير متلاشيا وترابا ، إلّا أنّه يصير ترابا هو مبدأ خلقه ونشوّه ، أي التراب الذي منه خلق أوّلا ، كما يدلّ عليه نصوص اخر أيضا واردة عنهم عليهمالسلام في ذلك ، من أنّ الميّت يبلى جسده حتّى لا يبقى لحم ولا عظم إلّا طينته التي خلق منها ، فإنّها لا تبلى في القبر وتبقى