إلّا هو وحده ، وإلّا الأمور الموجودة في الطبيعة له لهلك أو لساءت معيشة أشدّ سوء ، وتفصيل ذلك لا يناسب المقام. بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد ممّا في الطبيعة ، مثل الغذاء المعمول واللباس المعمول والموجود في الطبيعة من الأغذية ما لم يدبّر بالصناعات ، فإنّها لا تلائمه بل يخسر (١) معها معيشته ، وكذا الموجود في الطبيعة من الأشياء التي يمكن أن تلبس أيضا ، فقد يحتاج إلى أن تجعل بهيئة وصفة حتّى يمكنه أن يلبسها.
وأمّا الحيوانات الاخرى ، فإنّ لباس كلّ واحد معه في الطباع ، فلذلك يحتاج الإنسان أوّل شيء الى الفلاحة ، وكذلك إلى صناعات أخرى لا يمكن للانسان الواحد تحصيل كلّ ما يحتاج إليه من ذلك بنفسه ، بل بمشاركة مع غيره ، أي أن يكون مكفيّا بآخر من نوعه ، يكون ذلك الآخر أيضا مكفيّا به بنظيره ، حتّى يكون هذا يخبز لهذا ، وذلك ينسج لذلك ، وهذا ينقل شيئا من بلاد غريبة إلى ذلك ، وهذا يعطيه بإزاء ذلك شيئا من قريب ، وهذا يخيط لهذا ، وهو ينجر له ، وأمثال ذلك من المعونات التي لا تتناهى.
وبالجملة ، فهو يحتاج في ضرورات المعاش من المسكن والمطعم والملبس ، ودفع الأعداء والتحرّس من طوارق البلاء ، إلى أشياء كثيرة من الزرع والغرس والحصاد والطحن والطبخ والغزل والنسج والحياكة والخياطة وأدوات ذلك كلّه ، وكذا إلى البناء ومحاويجه وأسباب البناء وأسلحة الحروب وغير ذلك مما لا يحصيها غير علّام الغيوب ، وهي أشياء لا يستطيع لها ولا يقوى عليها إنسان واحد ، ولا مائة ولا ألف ؛ بل يحتاج إلى جماعة كثيرة يجتمعون في مكان واحد ومساكن متقاربة ، يعمل كلّ فرقة منهم عملا ، فيتعاونون ويتعاضدون ، ويتعاوضون أعمالهم ، ويتبادلون صنائعهم ، فيقع بينهم المعاملات في حقوقهم ومساعيهم. فلهذه الأسباب وأسباب اخرى أخفى وآكد من هذه يحتاج الإنسان إلى أن يكون له في طبعه قدرة على أن يعلم الآخر الذي هو شريكه بعلامة وضعيّة ، وكان أخلق ما يصلح لذلك هو الصّوت ، لأنّه ينبعث إلى حروف يتركّب منها تراكيب كثيرة من غير مئونة تلحق البدن في ذلك ، ويكون سيّالا لا يثبت ، فيأمن من وقوف
__________________
(١) لا يحسن خ ل.