من لا يحتاج إلى شعوره عليه. وبعد الصوت الإشارة ، إلّا أنّها لا تفي بالمعدومات والمعقولات الصرفة والمدركات الباطنيّة ، بل تختصّ بالمدركات بالحواسّ الظاهرة ، ومع ذلك ، فهي إنّما تهدي من حيث يقع البصر ، وأن تكون من جهة مخصوصة ، وأن تحرّك الحدقة إلى جهة مخصوصة حركات كثيرة يراعى بها الإشارة.
وأمّا الصوت فقد يغني الاستعانة به من أن يكون من جهة مخصوصة ، وعن أن يراعى تحريكات ، فجعلت الطبيعة للنفس أن تؤلّف من الأصوات ما يتوصّل به إلى إعلام الغير. وأمّا الحيوانات الأخرى ، وإن كان فيها أيضا أصوات يقف بها غيرها على حال نفسه ، إلّا أنّ تلك الأصوات إنّما تدلّ بالطبع على جملة من الموافقة والمنافرة غير محصّلة ولا مفصّلة ، والذي للإنسان فهو بخلاف ذلك ، لأنّه بالوضع ، وعلى أغراض لا تتناهى ، ومقاصد لا تحصى.
فاختصّ الإنسان بهذه الخاصيّة للضرورة الداعية إلى الإعلام والاستعلام ، لضرورة داعية إلى الأخذ والإعطاء ، ولضرورات اخرى. ثمّ باتّخاذ المجامع واستنباط الصنائع التي هي عن استنباط وقياس ، بعضها للضرورة النوعيّة ، وبعضها للضرورة الشخصيّة ولصلاح حال الشخص.
وأمّا الحيوانات الاخرى وخصوصا للطير (١) وإن كانت لها صناعات ـ ولا سيّما النحل ، فإنّ لها بيوتا ومساكن وتسديسا فيها ، وكذلك العنكبوت فإنّ لها نسجا وحياكة ـ إلّا أنّ تلك الصناعات ليست ممّا يصدر عن قياس واستنباط ورأي كلّي ، بل عن نوع إلهام وتسخير ورأي جزئيّ منبعث عن طبع وقوّة متخيّلة ، ولذلك ليست تلك الصناعات ممّا يختلف ويتنوّع ، ولا توجد متصرّفا فيها ولو تصرّفا ما كصناعات الإنسان ، وكذلك ليست تلك الحيوانات ممّا يصدر عنها غير تلك الصناعات الخاصّة ، أي أن تكون صناعاتها غير مخصوصة بوجه دون وجه كما في الإنسان أيضا ؛ بل إنّ صناعاتها خاصّة بتلك التي شوهد صدورها عنها ، ومع ذلك فليست صناعاتها للضرورة
__________________
(١) الطير خ ل.