عن المادّة ، كما يدرك (٣) أيضا معان غير محسوسة وإن كانت مادّيّة ، فهذا النزع إذن أشدّ استقصاء وأقرب إلى البساطة من النزعين الأوّلين ، إلّا أنّه مع ذلك لا يجرّد هذه الصورة عن لواحق المادّة ، لأنّه يأخذها جزئيّة وبحسب مادّة مادّة ، وبالقياس إليها ، ومعلّقة (٤) بصورة محسوسة ، مكفوفة (٥) بلواحق المادّة وبما يشاركه (١) الخيال فيها.
وأمّا القوّة التي تكون الصور (٦) المثبتة فيها ، إمّا صور موجودات ليست بمادّيّة البتّة ولا عرض لها أن تكون مادّيّة ، أو صور موجودات مادّيّة ، لكن (٧) مبرّاة عن علائق المادّة من كلّ وجه ، فبيّن أنّها تدرك الصور بأن تأخذها أخذا مجرّدا عن المادّة من كلّ وجه.
أمّا (٨) ما هو متجرّد بذاته عن المادّة ، فالأمر فيه ظاهر ، وأمّا ما هو موجود للمادّة ، إمّا لأنّ وجودها مادّيّ ، وإمّا عارض له ذلك ، فتنزعها (٩) عن المادّة وعن لواحق المادّة معه (١٠) ، فيأخذه (٢) (١١) أخذا مجرّدا حتّى يكون مثل الإنسان الذي يقال على كثيرين ، وحتّى يكون قد أخذ الكثير طبيعة واحدة ، ويفرزه (١٢) عن كلّ كمّ وكيف وأين ووضع مادّيّ ، ولو لم يجرّده (١٣) عن ذلك ، لما صلح أن يقال على الجميع. فبهذا يفترق إدراك الحاكم الحسّيّ ، وإدراك الحاكم الخيالي ، وإدراك الحاكم الوهميّ ، وإدراك الحاكم العقليّ ، وإلى هذا المعنى نسوق (١٤) الكلام في هذا الفصل.
فنقول : إنّ الحاسّ في قوّته أن يصير مثل المحسوس بالفعل ، إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته فيتصوّر بها الحاسّ ، فالمبصر هو مثل البصر (١٥) بالقوّة ، وكذلك الملموس والمطعوم وغير ذلك ، والمحسوس الأوّل بالحقيقة هو الذي ارتسم (١٦) في آلة الحسّ وإيّاه يدرك ، ويشبه أن يكون إذا قيل : أحسست الشيء الخارجيّ كان معناه غير معنى أحسست في النفس ؛ فإنّ معنى قوله : أحسست الشيء الخارجيّ ، أنّ صورته تمثّلت في حسّي. ومعنى أحسست في النفس ، أنّ الصورة نفسها تمثّلت في
__________________
(١) وبمشاركة خ ل.
(٢) فيأخذها خ ل.
(٣) في المصدر : ويدرك ...
(٤) متعلّقة ...
(٥) مكنوفة ...
(٦) الصورة ...
(٧) ولكن ...
(٨) فأمّا ما ...
(٩) فتنزعه ...
(١٠) معها ،
(١١) وتأخذه ...
(١٢) وتفرزه ...
(١٣) لم تجرّده ...
(١٤) كنّا نسوق ...
(١٥) المبصر ...
(١٦) يرتسم.