«الشفاء» أيضا ، يشبه أن يكون كلّ إدراك إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء ، وكذا بعض كلمات اخر منه ممّا نقلناه عنه أم لم ننقل ، فلعلّه نظر إلى الرابع ، وإلّا فلا فعل آخر للنّفس في إدراكها لشيء غير أخذ الصورة والتجريد من الوجود والمادّة وتوابعها ، كما هو معلوم بالضرورة الوجدانيّة. اللهمّ إلّا على مذهب من يقول : إنّ الله سبحانه خلق النّفس الإنسانيّة متوسّطة بين العالمين ، فجعل لها اقتدارا على إيجاد صور الأشياء وماهيّاتها في عالمها المتوسّط ، وأنّ لتلك الصورة حصولا تعلّقيّا بالنفس التي هي فاعلة لها موجدة إيّاها ، بل أنّ حصولها في أنفسها هو بعينه حصولها لفاعلها المفيض لوجودها ، وأنّ هذا هو معنى الإدراك ، والقائل به أعلم.
وبالجملة ، فهذه الاحتمالات الأربعة وإن كان يمكن الذّهاب إليها في بادئ النّظر على ما ذكرنا وجهها ، إلّا أنّ الحقّ هو الأوّل ، وهو أنّ الإدراك بمعنى ما يحصل به الإدراك الانتزاعيّ من مقولة الكيف ، لأنّ الإدراك قد يوصف بالمطابقة للخارج ويسمّى علما ، وقد يوصف بعدم المطابقة له ويسمّى جهلا ، وهذا لا يتصوّر في شأن الانفعال والفعل والإضافة ، بل إنّما يتصوّر في شأن الصورة الذهنيّة فقط ، مع أنّ الظاهر ـ كما أشرنا إليه ـ أنّ الأصل فى حصول الإدراك هو تلك الصورة ، وأنّ ما سواها ليس كذلك.
ثمّ إنّك بعد ما تبيّنت ما فصّلناه ، وتحقّقت ما حقّقناه ، اتّضح لك شرح ما نقلنا عن الشيخ في الكتابين من معنى الإدراك الحصوليّ وبيان كيفيّته ، إلّا أنّه بقي بعد شرح بعض كلماته فيها ، فحريّ بنا أن نشرحها :
فنقول : قوله فى «الشفاء» فى آخر كلامه في بيان معنى الإدراك (١) : «فنقول إنّ الحاسّ في قوّته أن يصير مثل المحسوس بالفعل ، إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته فيتصوّر بها الحاسّ» ـ إلى آخر ما ذكره. كان معناه كما يدلّ عليه بعض كلماته الاخر أيضا ، وخصوصا كلامه في آخر الفصل الذي نقلنا في معنى الإدراك.
أنّ الإحساس لمّا كان هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّة ، أي قبول ماهيّة
__________________
(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٥٣ ، الفصل الثاني من المقالة الثانية في الفنّ السادس.