«متمثّلة عند المدرك» تنبيه على أنّه في القسم الأوّل ليس الإدراك هو كون الشيء حاضرا عند الحسّ فقط ، بل كونه حاضرا عند المدرك أي النّفس ، لحضوره عند الحسّ لا بأن يكون حاضرا مرّتين ، بل بذلك الحضور عند الحسّ الذي هو آلة النّفس ، حيث إنّ المدرك هو النّفس ولكن بواسطة الحسّ ، فتدبّر.
وقوله : «فأمّا أن تكون تلك الحقيقة نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك إذا أدرك ـ إلى آخر ما ذكره ـ». كأنّ فيه إشارة إلى أنّ تلك الحقيقة المتمثّلة إن لم تكن خارجة عن ذات المدرك ، كملكات النّفس وصفاتها ، وكالصّورة العلميّة ، أي الماهيّة الحاصلة المتمثّلة المنتزعة من الشيء الخارجيّ من حيث إنّها علم لا من حيث إنّها معلومة ، كما سيجيء الفرق بينهما.
وبالجملة ، الحقائق التي وجوداتها العينيّة هي بعينها وجوداتها في الذهن من حيث إنّها قائمة به حاصلة فيه ، فالحقيقة المتمثّلة عند المدرك من جملة تلك الحقائق هي نفس حقيقتها من غير تجريد لها عن وجودها الخارجيّ ، بل هي حاصلة عند المدرك مع وجودها الخارجيّ العينيّ ، وليس الحاصل عنده صورها ولا أمثلتها.
وإن كانت خارجة عن المدرك ، فهي على قسمين كما أشرنا إليه سابقا :
قسم لا يكون له وجود بالفعل في الأعيان الخارجة ، كالممتنعات والممكنات بالذّات المعدومة في الخارج ، مثل كثير من الأشكال الهندسيّة ، بل كثير من المفروضات التي لا تمكن إذا فرضت في الهندسة ممّا لا يتحقّق أصلا. ففي هذا القسم تكون تلك الحقيقة المتمثّلة عند المدرك إذا أدركها هي نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك ، أي نفس ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود الخارجي لا تجريدا يفعله العقل ، بل إنّها ـ في حدّ ذاتها ـ مجرّدة عن الوجود الخارجيّ ، إذ ليس لها وجود خارجيّ فتتمثّل هي على ما هي عليه عند المدرك مجرّدة. وقد عرفت فيما تلونا عليك أنّ الممتنعات والمعدومات الممكنة وإن لم يكن لها حقيقة ، أي ماهيّة مأخوذة مع الوجود الخارجيّ ، لكنّها ممّا لها ماهيّة غير مأخوذ معها الوجود الخارجيّ ، وأنّ حقيقتها هي نفس تلك الماهيّة المجرّدة في حدّ