مجرّدة ، وبحسب وجودها العينيّ مادّيّة. فكيف يمكن أن يكون الأمر بالعكس؟ أي أن يكون تلك الصّورة في العقل مادّيّة ، وبحسب وجودها العينيّ مجرّدة ، مع أنّ كلّ ذلك خلاف الفرض ، بل فيه التناقض.
وبيّنّا أيضا أنّ الصّورة العقليّة من الذّوات المجرّدة ، وإن كانت في الوجود العينيّ مجرّدة عن المادّة ، إلّا أنّها في الوجود العقليّ أيضا منطبعة ، كما هي عليه في النّفس من غير عروض شائبة مادّية عليها ، فكيف يمكن فيها أيضا أن تكون تلك الصّورة بحسب وجودها العقليّ ، أي من قبل محلّها مادّيّة؟ فإنّ ذلك أيضا خلاف المفروض ومناقض لما تبيّن.
وممّا ذكرنا يتلخّص برهان آخر على المطلوب. وقد ذكره الشيخ أيضا في «الشفاء» ، وهو أنّه : «لا يخفى أنّ النّفس تجرّد المعقولات الحاصلة من المادّيّات عن المادّة وعن علائقها من الكمّ المحدود والأين والكيف والوضع وسائر عوارض المادّة» ، فيجب أن ننظر في ذات هذه الصّورة المجرّدة عن الوضع ، كيف هي مجرّدة عنه ، إمّا بالقياس إلى الشيء المأخوذ منه ، أو بالقياس إلى الشيء الآخذ ، أعني أنّ وجود هذه الماهيّة المعقولة المتجرّدة عن الوضع ، هل هو في الوجود الخارجيّ أو في الوجود المتصوّر في الجوهر العاقل؟ ومحال أن تقول : إنّها كذلك في الوجود الخارجيّ ، لأنّها في الوجود الخارجيّ محفوفة بالعوارض الخارجيّة البتّة ، فبقي أن نقول : إنّما هي مفارقة للوضع والأين وسائر العوارض المادّيّة عند وجودها في العقل ، فإذا وجدت في العقل ، لم تكن مادّيّة ، وبالجملة ذات وضع وبحيث يقع إليها إشارة حسّيّة. فلا يمكن أن تكون حاصلة في شيء مادّيّ من جسم أو مقدار فيه أو نحو ذلك ، لأنّ الحاصل في المادّيّ لا يكون إلّا ذا وضع ، هذا خلف.
فثبت أنّ محلّ تلك المعقولات ـ وهي النّفس الناطقة الإنسانيّة ـ مجرّدة عن المادّة مثلها ، وهو المطلوب.
وبعبارة أخرى أنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة تجرّد المعقولات عن المادّة وعوارضها ،