والعلوم كلّها لا تجتمع في دفتر واحد.
وأمّا النّفس فهي لوح يجتمع فيه علوم شتّى وصنائع تترى ، وأخلاق مختلفة وأعراض متفاوتة ، فليذعن أنّها دفتر روحانيّ ولوح ملكوتيّ لا تتراكم فيه الصّور كما تتراكم في الهيولى الجسمانيّة ، وربّما تزول عنها هذه الأسباب المؤدّية إلى كمالها ، لإقبالها إلى شيء من الأمور العاجليّة عند مرض أو شغل قلب أو همّ أو غمّ يعرض لها ، إلّا أنّه لا يزول عنها بهذه الأمور صورها الكماليّة المستحفظة في ذاتها على الإطلاق أو في خزانتها ، لأنّها روحانيّة الشّبح ، متعلّقة الوجود بجوهر قدسيّ تختزن فيه صورها الكماليّة بنوع قوّة قريبة من الفعل ، والعائق لها عن مشاهدة كمالاتها بعد خروجها عقلا بالفعل ليس أمرا داخليّا ، كما في الجواهر والمعاني التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل ، بل عائقها عن الوصول إلى حاقّ ما لها من السّعادة حجاب خارجيّ احتجبت به ذاتها عن ذاتها ، وهو اشتغالها بهذا البدن ، وعادتها في الانجذاب إليه بحسب فطرتها الاولى دون الثانية ، فإذا ارتفع غبار البدن من بصرها العقليّ ووقع نظرها على ذاتها وجدتها مستكملة بالمعقولات ، مشاهدة إيّاها ، مستعملة بها.
وبالجملة إذا زال عنها العائق ، عادت إلى كمالها بنوع فعل ، لا بنوع انفعال ، ولهذا يقال لها العقل بالفعل ، وإن كان بعد في هذا العالم.
وأمّا الجسم وقواه فلا يمكن له مثل ذلك. ألا ترى أنّ الحواسّ لا يمكن أن يستحفظ في ذاتها صورة وتقبل أخرى ، والمعاودة إليها بعد الغيبة بنوع فعل استكفته بذاتها وبمقوّم ذاتها ، بل بمثل ما ينشأ منها ابتداء. ـ انتهى كلامه ـ
وقد ذكر الشيخ في الإشارات في مقام أنّ النّفس النّاطقة تعقل بذاتها من غير آلة كلاما هذه عبارته (١) : «تبصرة : اذا كانت (٢) قد استفادت ملكة الاتّصال بالعقل الفعّال ، لم يضرّها فقدان الآلات ، لأنّها تعقل بذاتها ـ كما علمت ـ لا بآلتها ، ولو عقلت بآلتها ، لكان لا
__________________
(١) الإشارات ٣ / ٢٦٦ ـ ٢٧٥.
(٢) في المصدر : اذا كانت النفس الناطقة قد استفادت.