العقل والنّفس الناطقة المجرّدة لها ، بل إنّ المعلوم أنّ نفوسها منطبعة في المادّة ، لا يمكن أن يحصل لها العلم الحضوريّ بما في قواها وحواسّها ، لا مجال لتوهّم أنّ تلك الصّور حاصلة في آلاتها وحواسّها ، وهي حاضرة عند نفوسها ، وبذلك تحكم وتميّز بينها ، كما يمكن أن يتوهّم ذلك في الإنسان.
أمّا بيان وجود هذا الحكم والتّمييز في الحيوانات العجم ، فلأنّه لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها المائلة بشهوتها وبقوّتها الشهوانيّة إلى الحلاوة ، وبالجملة إلى الشيء الملائم لها ، إنّ شيئا صورته كذا هو حلو وملائم لها ، لما كانت إذا رأته همّت بأكله ، وحيث كانت حالها كذلك ، فهي تحكم بأنّ المبصر الكذائيّ هو حلو وملائم لذائقتها ، ومذوق مثلا وتميّز بينهما. كما أنّه لو لا عندنا أنّ هذا الأبيض هو هذا المعنى ، لما كنّا إذا سمعنا معناه الشخصيّ أثبتنا عينيّته الشّخصيّة ، وبالعكس ، حيث إنّا نميّز بين المبصر والمسموع ، ونحكم بينهما. وبالجملة فحال البهائم التي لا عقل لها في ذلك ، مثل حالنا فيه سواء بسواء ، فحيث كانت هي صدر عنها ذلك التّمييز والحكم ، فتدرك هي أيضا نوعين من المحسوس معا ، فإذن لا بدّ لها من قوّة لذلك ، وليست تلك القوّة إحدى الحواسّ الظّاهرة ، لأنّها لا تدرك إلّا نوعا واحدا من المحسوسات كما سلف بيانه ، ولا النّفس الحيوانيّة ، لأنّها لا تدرك محسوساتها إلّا بقوى جسمانيّة ، وليس لها لكونها منطبعة في المادّة أن تدرك الصّور التي في قواها وآلاتها إدراكا حضوريّا كالنّفس المجرّدة ، فبقي أن يكون هي قوّة من القوى الباطنة ، ونحن نسمّيها بالحسّ المشترك وفيه المطلوب.
وإنّما قال : «لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال» ، إيماء إلى أنّ للخيال أيضا دخلا ما في ذلك الحكم والتّمييز من جهة حفظ تلك الصّور ، كما أنّ للحسّ المشترك دخلا فيه من حيث الإدراك كما عرفت بيانه.
وأيضا لو لم يكن في الحيوان مطلقا قوّة يجتمع فيها صور المحسوسات ، لتعذّر عليه الحياة. إذ لو لم يكن الشّمّ مثلا دالّا لها على الطّعم الملائم أو المنافر ، ولم تكن تدرك أنّ هذا المشموم مذوق ملائم أو غير ملائم ، وكذا لو لم يكن الصّوت دالّا إيّاها على الطّعم ، ولم