كانت أجزاؤه من جنس ما يمكن أن يدرك بالحسّ ، ومع ذلك فليس الحاكم به يدرك جنس أجزائه في الحال ، بل لم يدرك بعض أجزائه بحسب الحسّ كما هو المفروض ، بل إنّما هو حكم يحكم به الحاكم به على سبيل البغتة والفلتة من غير تدبّر فيه ، وربّما غلط فيه ، فالحاكم به ليس هو النّفس النّاطقة التي هي تحكم حكما كلّيّا فصلا ، ولا الحسّ المشترك الذي هو أيضا يحكم حكما فصلا وإن كان جزئيّا ، ولا شيئا من القوى الحيوانيّة الأخر. فبقي أن يكون الحاكم به هو القوّة الاخرى الّتي نسمّيها القوّة الوهميّة.
ومنه يظهر أنّه على تقدير فرض تأدّي الصّورة العسليّة من الحواسّ الظّاهرة ، أو من الخيال أيضا ، حينئذ لا يمكن إسناد هذا الحكم إلى الحسّ المشترك ، لأنّه إنّما يحكم حكما جزئيّا فصلا ، وهذا الحكم ليس بفصل كما عرفت.
فإن قلت : إذا كان فعل القوّة الواهمة الحكم في المحسوسات بمعان غير محسوسة كما ذكرت ، فلا شكّ أنّ تلك المحسوسات من أجزاء حكمها ، فيجب أن تدركها أيضا حتّى يمكن لها أن تحكم فيها أو عليها بتلك المعاني ، فكيف ذلك؟
قلت : لعلّ فعلها بالذّات إنّما هو إدراك تلك المعاني والحكم بها ، وأمّا إدراك تلك المحسوسات في ضمن الحكم ، فلعلّه هو فعلها بالعرض وبالواسطة ، أو بتوسّط آلة مدركة للصّور المحسوسة ، حيث كانت القوى الحيوانيّة خوادم لها ، ولا حجر في ذلك إذا كانت الجهتان متغايرتين ، والله أعلم.
وقوله : «وفي الإنسان للوهم أحكام خاصّة ، من جملتها حملها النّفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل ، ولا ترتسم فيه ، وثانيها التّصديق بها ، فهذه القوّة لا محالة موجودة فيها» ، أي أنّه من جملة الأحكام الخاصّة المستندة إلى الوهم في الإنسان ، أنّ الوهم ربّما يحمل النّفس الإنسانيّة على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل ، ولا ترتسم فيه ، أي في الوهم كالمعقولات الكلّيّة والمجرّدات عن المادّة ، ومن جملتها أنّه ربّما يحملها على التّصديق بوجود أشياء متخيّلة مرتسمة في الوهم ، وإن كان يمنع منه العقل ، فيعلم منه أنّ هذه القوّة لا محالة موجودة في النّفس الإنسانيّة ، ومن جملة قواها.