ثمّ إنّ ما يتراءى من ظاهر كلامه هنا أنّ الفصل كمال للجنس ، لا ينافي كونه كمالا للنوع أيضا ، كما تضمّنه كلامه السابق. حيث إنّ كونه كمالا للجنس بمعنى كونه محصّلا له مقسّما إيّاه ، يستلزم كونه محصّلا للنوع أيضا مقوّما إيّاه ، كما عرفت من البيان السابق. فتذكّر.
وقوله (١) : «وليس هذا الجسم الذي النفس كماله ، كلّ جسم» ـ الى آخره ـ
يعني أنّه بعد تقييد الكمال بكونه كمالا أوّلا لجسم ، يجب تقييده بقيود أخر أيضا ، حتّى يحصل حدّ تام للنفس من حيث هي نفس ، ومقيسة إلى البدن ؛ لأنّ الجسم الذي النفس كماله ليس كلّ جسم ، فإنّها ليست كمال الجسم الصناعيّ ، كالسرير والكرسيّ ونحوهما ، بل كمال الجسم الطبيعيّ فيجب التقييد به ؛ وبعد ذلك فليست هي كمالا لكلّ جسم طبيعيّ ، لأنّها ليست كمالا للنار ولا للأرض ولا للهواء من البسائط ، حتّى تكون صورة نوعيّة للبسائط ، وكذا هي ليست كمالا للمركّبات المعدنية وغيرها ، حتّى تكون صورة نوعيّة للمركّبات مطلقا ، بل هي في عالمنا هذا ـ أي عالم الأرضيّات ـ كمال لجسم طبيعيّ مركّب آليّ ذي آلات وقوى يصدر عنه كمالاته الثانيّة ، أي أفعاله وانفعالاته بتوسّط آلات وقوى يستعين هو بها في أفعال الحياة ، التي أوّلها التغذّي والنموّ وآخرها الإدراكات. والمعنى أنّه يستعين بها في أفاعيلها إن كان احتاج إلى الاستعانة ، وإلّا فيصدر عنه تلك الأفاعيل بنفسه من غير توسّط آلة ، كما في النفس الإنسانيّة في فعلها الخاصّ بها ، أي إدراك الكلّيّات.
والحاصل أنّه يمكن أن يصدر عنه بتوسّط الآلات أو بدون توسّطها ما يصدر من أفاعيل الحياة ، التي هي التغذّي والنموّ والتوليد والإدراك والحركة الإراديّة والنطق ، وإنّما خصّ صورة الاستعانة بالذّكر ، لأنّها عامّة لجميع النفوس الأرضيّة ، إمّا في جميع ما يصدر عنها ، كما في النباتيّة والحيوانيّة ؛ وإمّا في الأكثر كما في النفس الإنسانيّة ، بخلاف صورة عدم الاستعانة ، فإنّها خاصّة ببعض تلك النفوس في بعض أفعالها ، وهي النفس الإنسانيّة
__________________
(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٠ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.