[قوله :] «إشارة شديدة الموقع (١) عند من له قوّة على ملاحظة الحقّ نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه وتسويته وقرع عصاه وصرفه عن المغلّطات» :
أي عند من له قوّة ملاحظة على الحقّ ، ولا يكون اعوجاج في رأية وعدم استقامة في فكره ، حتّى يحتاج إلى تسويته وتعديله ، ولا يكون عادلا عن طريق الحقّ ، حتّى يحتاج إلى ضربه بالعصا حتى يتنبّه ويجيء إلى سبيل الحقّ ، أو إلى ضرب عصاه ، حتّى يجد الطريق ويستشعر به كالأعمى. ولا يكون واقعا في الغلط ، حتّى يحتاج إلى صرفه عمّا يوقعه فى الغلط.
ثمّ إنّ غرضه من هذه الإشارة يحتمل أحد أمرين :
احدهما أنّ ما تقدّم من إثبات وجود النفس ، لمّا كان إثباتا بطريق الكسب ، واستدلالا من آثارها عليها ، ومن جهة مشاهدة أفعالها على وجودها ، فيجب هنا أن نشير إلى اثبات وجودها إثباتا بديهيّا ، ليتأكّد العلم بوجودها ، ويزيد اليقين بثبوت إنّيّتها ؛ ويتضمّن مع ذلك بعض ما نريد بيانه هنا ، من كونها مغايرة للبدن ولجميع أجزائه وقواه ، بل لكلّ ما يدرك بالحواسّ الظاهرة والباطنة ، وبذلك يتضمّن كونها جوهرا مجرّدا عن المادة أيضا ، كما يتضمّنه هذا الإثبات في هذه الإشارة ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الثّاني أنّه لمّا كان تحديد الشيء والعلم بحقيقته متوقفا على العلم بوجوده ، وكان ما تقدّم تحديدا للنفس من جهة ما لها إضافة ما إلى البدن ، فلذا اكتفينا فيه بإثبات وجودها من هذه الجهة ، أي من جهة آثارها وأفعالها في البدن. وأمّا نحن فى هذا المقام ، حيث كنّا بصدد تحقيق حقيقة النفس في ذاتها ، وتحصيل العلم بها من هذه الحيثيّة ، وأنّها جوهر مجرّد من شأنه كذا وكذا ، ومن حالها كيت وذيت ؛ فيجب علينا أن نشير إلى إثبات وجودها من حيث ذاتها بذاتها ، حتّى نحقّق بعد ذلك حقيقتها من هذه الجهة.
وعلى الوجهين فتخصيص هذا الإثبات بوجود النفس الإنسانيّة ، مع أنّ ما تقدّم منه كان عامّا ، يعمّ إثبات النفس الأرضية مطلقا.
__________________
(١) في المصدر : الوقوع.