إمّا لأنّ الإثبات بهذا الوجه الضروريّ التنبيهيّ إنّما يكون في النفس الإنسانيّة فقط ، لأنّ ذلك التأمّل والتوهّم والملاحظة إنّما يكون للإنسان دون النبات والحيوان ، يعني أنّ هذا التنبّه إنّما هو معلوم الحصول للإنسان دون غيره ، فإنّه في غيره غير معلوم وإن كان عدمه غير معلوم أيضا.
وإمّا لأنّ الغرض الأصليّ هو إثبات وجود النفس الإنسانيّة وبيان أحوالها ، وأما النباتيّة والحيوانيّة فبالعرض وبتبعيّة بيان حال الإنسانيّة ، حيث إنّهما أيضا موجودتان للإنسان أيضا.
وإمّا لأنّ هذا الإثبات ، وإن كان في أوّل النظر مخصوصا بالإنسان وبالنفس الإنسانيّة ، إلّا أنّه في النظر الثاني الأدقّ ، حيث يثبت أنّ النفس الإنسانيّة ذات واحدة بالحقيقة ، لها اعتبارات مختلفة ؛ باعتبار تكون إنسانيّة ، وباعتبار تكون حيوانيّة ، وباعتبار تكون نباتيّة ـ كما سبقت الإشارة إليه فيما تقدّم ، وسيجيء زيادة تحقيقه ـ يكون هذا الإثبات عامّا للجميع ، فتدبّر.
وقوله (١) : «فنقول : يجب أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة» ـ إلى آخره ـ.
إشارات إلى هذا الإثبات. وتحريره : أنّه يجب في هذه الإشارة أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة ، أي أوّل خلقه حتّى لا يكون له تذكّر أصلا لشيء مطلقا ، وخلق كاملا ، أي صحيح العقل حتّى يمكنه التنبّه لذاته ، وصحيح الهيئة لئلّا يؤذيه مرض ، فيدرك حالا لذاته غير ذاته ، لكنّه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات عن ذاته ، أي بحيث لا يبصر أجزاءه ولا شيئا غيرها ، لئلّا يدرك شيئا من هذه ، فيحكم بأنّ ذاته هو ؛ وخلق يهوي ويسقط في هواء ، أي في هواء طلق غير محسوس بكيفيّة غريبة من حرّ أو برد أو خلاء ، هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدم ما يحوج إلى أن يحسّ ، حتّى يحسّ بصدمه أو كيفيّته.
وبالجملة بشيء خارج عن جسده أيضا ، لئلّا يحكم بأنّ ذلك ذاته أو جزء ذاته ،
__________________
(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٣ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الباب السادس.