وفرّقت بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماسّ ، بل كانت مفرّقة في ذلك الهواء لئلّا يحسّ بأعضائه ، ثمّ يتأمّل أنّه هل يثبت وجود ذاته؟ ولا شكّ أنّه لا يشكّ حينئذ في اثباته لذاته موجودا ، ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه الظاهرة ، ولا باطنا من أحشائه وأعضائه الباطنة ، ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج ، بل كان يثبت ذاته ، ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا. ولو فرضنا أنّه أمكنه في تلك الحال أن يتخيّل شيئا مما ذكر أو عضوا آخر ، فلا شكّ أنّه لم يتخيّله جزءا من ذاته ولا شرطا في ذاته ، وأنت تعلم أنّ المثبت غير الذي لم يثبت ، وأنّ المقرّ به غير الذي لم يقرّ به. فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصيّة هي أنّها مثبتة ، وهي ذات ذلك المتنبّه المتوهّم المتأمّل المفروض بعينه غير جسمه وغير أعضائه وغير شيء آخر خارج ، وبالجملة غير ما لم يثبته أيّا كان.
ثمّ إنّ ذلك المتأمّل المتنبّه ، لو تأمل أدنى تأمّل ، تنبّه لأنّه ليس هذا الذات التي أثبت وجودها سوى نفسه ، فيحصل له سبيل على التنبّه على وجود النفس له شيئا غير جسمه وبدنه وأعضائه ومزاجه وأعراضه ، بل غير ما هو غير لهذا الجسم من الأشياء الخارجة.
ويجب أن يكون عارفا بذلك مستشعرا له ، فإنه مع ذلك التنبّه لو كان ذاهلا عنه ، كان أعمى القلب ضالّا عن السّبيل السويّ ، ككثير من العوام وأصحاب الطبائع الكثيفة المتورّطين في الجهالات ، يحتاج إلى أن يقرع عصاه حتّى يهتدي إلى السبيل ، ويشهد بذلك ما نقل عن أرسطو.
إنّه سئل أنّه كيف تعمى النفس عن معرفة نفسها وهي أمّ الحكمة؟
فقال : إذا غابت الحكمة عن النفس ، عميت عن نفسها وغيرها كما يعمى البصر عن نفسه وغيره اذا غاب عنه المصباح.
فحاصل هذه الإشارة : أنّه من الفروض الممكنة غير الممتنعة أن يفرض الإنسان كونه في أوّل الخلقة صحيح العقل والهيئة ، في هواء طلق أو خلاء ، منفرج الأعضاء غير متلامسها ، وغير مستعمل للحسّ في شيء أصلا ، فإنّه حينئذ يكون واجدا لذاته ولنفسه ، مثبتا لها مستشعرا إيّاها وفاقدا غير مستشعر وغير مثبت لكلّ شيء سواها ، وغافلا عن