وفي قوله سبحانه : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الآية ١٩] استعارة. والمراد بها أن النار ، نعوذ بالله منها ، تشتمل عليهم اشتمال الملابس على الأبدان ، حتى لا يسلم منها عضو من أعضائهم ، ولا يغيب عنها شيء من أجسادهم.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك ، والله أعلم ، أن سرابيل القطران التي ذكرها سبحانه ، فقال : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [ابراهيم : ٥٠] إذا لبسوها واشتعلت النار فيها صارت كأنها ثياب من نار ، لإحاطتها بهم واشتمالها عليهم.
وفي قوله سبحانه : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) استعارة. لأن المراد بها ذهول القلب عن التفكّر في الأدلّة التي تؤدي إلى العلم. وذلك في مقابلة قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) [النجم] فإذا وصف القلب عند تبيين الأشياء بالرؤية والإبصار ، جاز أن يوصف عند الغفلة والذهول بالعمى والضلال. وإنما جعلت القلوب هاهنا بمنزلة العيون ، لأن بالقلوب يكون تحصيل المعلومات ، كما أن بالعيون يكون إدراك المرئيات. ولأن الرؤية ترد في كلامهم بمعنى العلم. ألا تراهم يقولون : هذا الشيء مني بمرأى ومسمع. أي بحيث أعرفه وأعلمه ، ولا يريدون بذلك نظر العين ، ولا سمع الأذن.
وفي قوله سبحانه : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) معنى عجيب ، وسر لطيف. وذلك أنه سبحانه لم يرد نفي العمى عن الأبصار جملة. وكيف يكون ذلك وما يعرض من عمى كثير منها أشهر من أن نؤمي إليه ، وندل عليه؟ وإنما المراد ، والله أعلم ، أن الأبصار إذا كانت معها آلة الرؤية من سلامة الأحداق ، واتصال الشعاعات لم يجز أن لا ترى ما لا مانع لها من رؤيته. والقلوب بخلاف هذه الصفة بها ، قد يكون فيها آلة التفكر والنظر من سلامة البنية ، وصحة الروية وزوال الموانع العارضة ، ثم هي مع ذلك لاهية عن النظر ، ومتشاغلة عن التفكر. فلذلك أفردها الله سبحانه بصفة العمى عن الأبصار على الوجه الذي بيّناه مع الفائدة.
فأما الفائدة في قوله سبحانه : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) ،