من مسافة بعيدة ، يسمع صوت من يناديه منها ، ولا يفهم ما يقال له. وهذا أيضا استعارة ، لقلة فهمهم ، حيث شبّههم بالرجل ، ينادى من مكان بعيد ، يسمع منه الصوت ، ولا تفهم تفاصيله ولا معانيه.
وهذا شأن مستمر بين الأمم المكذبة ، فلا تستغرب أيها الرسول موقف قومك ، فتلك عادة قديمة للأمم مع الرسل ، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة عليهم ، كما حدث من بني إسرائيل ، فلقد أرسل الله موسى عليهالسلام وآتاه التوراة ، فاختلفوا في كتابهم بين مصدّق ومكذّب ، وشأنك أيها الرسول مع قريش ، كشأن موسى مع بني إسرائيل ، حين جاءهم بالتوراة ، ولقد أخّر الله العذاب على الفريقين ، ولولا الكلمة السابقة (وهي أن الله حتّم تأخير عذابهم إلى يوم القيامة) لقضي بينهم ، أي لعجّل لهم العذاب ، كما فعل بالأمم المكذبة السابقة ، وسبب الهلاك قائم فيهم ، فإن كفار قريش لفي شك من القرآن ، موقع في الريبة والقلق ، ولم يكن تكذيبهم للقرآن ناجما عن تبصر وتأمل ، بل كانوا شاكّين فيه وفيما قالوا ، غير متحققين لشيء كانوا فيه.
وقانون الجزاء الإلهي واضح ، فمن عمل صالح الأعمال بأداء الفرائض واجتناب المعاصي ، فإنما ينفع نفسه ، ويجازى بخير عمله ، ومن أساء فعصى الله تعالى ، فإنما يرجع وبال ذلك عليه ، ويعاقب بسوء عمله ، والجزاء للفريقين قائم على أساس من الحق والعدل المطلق ، فلا ينقص المحسن شيئا من ثوابه ، ولا يعاقب أحد إلا بذنبه أو معصيته.
العلم بالساعة وطبيعة الإنسان
هناك أمر خطير جدا ، مرتقب لا شك فيه : وهو يوم القيامة ، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت تجهيله ، فلا يعلم به أحد من المخلوقات ، واختص الله تعالى وحده بعلم الساعة ، كما اختص بالعلم بالأحداث المستقبلة ، ليظل الإنسان رقيبا على نفسه ،