وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(٥٩)
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ).
قال عامة أهل التأويل (١) : إن اليهود جادلوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الدجال أنه منهم ، وأنه في الطول كذا ونحوه ؛ وعلى ذلك نسق (٢) الآيات التي تتلو هذه الآية.
ولكن لسنا ندري بما ذا صرفوا مجادلتهم في آيات الله إلى المجادلة في الدجال ، ولا يسع أن نحمل ما ذكر من مجادلتهم في آيات الله على المجادلة في الدجال ، إلا أن يثبت خبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بطريق التواتر أن المجادلة المذكورة في الآية في الدجال ؛ فحينئذ يصرف إلى ذلك ، والله أعلم.
ثم قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) أي : يجادلون في دفع آيات الله بغير حجة أتتهم من الله ، وكانت المجادلة في دفع آيات الله من رؤساء الكفرة وأكابرهم ، كانوا يموهون بمجادلتهم في دفع آيات الله تعالى والطعن فيها على أتباعهم وسفلتهم ؛ ليبقى لهم الرئاسة والمأكلة التي كانت لهم ، وهو ما ذكر : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ...) الآية [الأنعام : ١١٢] ، (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٢٣] وغير ذلك من الآيات ، لم يزل الأكابر منهم والرؤساء يطعنون في آيات الله تعالى ويدفعونها ، يريدون التمويه والتلبيس على أتباعهم وسفلتهم ، ليبقى لهم العز والشرف الذي كان لهم ، ويبطلوا به الحق ، ويطفئوا نوره ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [الكهف : ٥٦] ، وقوله ـ تعالى ـ : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [التوبة : ٣٢] هذا كان مرادهم من مجادلتهم في آيات الله والطعن فيها.
ثم أخبر ـ عزوجل ـ أنهم يجادلون ، ويفعلون ذلك ؛ تكبرا منهم على آيات الله والخضوع لرسله ، حيث قال ـ عزوجل ـ : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ).
أي : ما في صدورهم إلا كبر ، أي : كبرهم هو الذي حملهم على المجادلة في آيات الله ، ثم الذي حملهم على الكبر جهلهم بسبب العز والشرف ، ظنوا أن العز والشرف إنما يكون بالأتباع الذين يصدرون عن آرائهم ، ولو عرفوا منهم يكون العز والشرف ، لكانوا لا
__________________
(١) قاله أبو العالية أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٦٦١) ، وهو قول كعب الأحبار وابن جريج أيضا.
(٢) في أ : نسقوا.