كما ذكر في قوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة : ١١٨] ، وقوله : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) [التوبة : ٣٠] لم يرد به التشابه والمضاهاة على أن نفس القول منهم وعين الكلام كان واحدا ، بل كان سبب كفرهم مختلفا ، وقول هؤلاء خلاف قول أولئك ، وما كان من هذا الفريق خلاف ما كان من الفريق الآخر ، لكن لما كان التكذيب من هؤلاء له كالتكذيب من أولئك والرد له من هؤلاء كهو من أولئك في أن كان كفرا واحدا سواء ، فمن هذه الجهة وصف قلوبهم بالتشابه وأقوالهم بالمضاهاة ، وهذا يدل على أن الاستواء من جهة واحدة يوجب التشابه والتماثل.
وقوله : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ، هذا يحتمل وجوها :
أحدها : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) بنبأ من كان [قبلهم] ونبأ من كان بعدهم أنهم جميعا قالوا لقومهم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ).
والثاني : (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ) بالوعيد والتخويف بعذاب ينزل بهم (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) ، أي : من حيث يرونه ويعلمونه (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ، أي : من حيث لا يرونه ولا يعلمون ؛ وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ* أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف : ٩٧ ، ٩٨] ونحوه.
وقيل : يبعث الله الرسل قبلهم وبعدهم بالذي ذكر ، وهو الدعاء إلى توحيد الله وجعل العبادة له ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).
هذا القول منهم يناقض قولهم وتكذيبهم الرسل وإنكارهم رسالة البشر وطمعهم رسالة الملائكة ؛ لأنهم ما عرفوا الملائكة ولا عاينوا ، فإنما عرفوا الملائكة وعلموا بمكانهم برسل البشر ، فكيف أنكروا رسالتهم مع ما لو كان الرسل إليهم الملائكة ، لم يعرفوا أنهم ملائكة إلا بقولهم ؛ لما لم يتقدم لهم المعرفة بالملائكة ، فهذا يناقض إنكارهم الرسل من البشر؟!
والثاني : ما قالوا : (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) قد أقروا رسالتهم حيث قالوا : (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ؛ لأنهم لم يقولوا : إنا بما [أرسلتم] إلينا كافرون ، ولكن قالوا : (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ) فذلك مما يناقض قولهم ويرد تكذيبهم ، وإنما قالوا ذلك ـ أعني : قولهم : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ـ تعنتا منهم وعنادا ، وإلا قد علموا أنهم رسل الله فيناقضون بما قالوا على التعنت منهم ، والله أعلم.