موسى ، وهو قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، لكن أهل التأويل قد أجمعوا على صرف هذه المنة والرحمة في تأخير العذاب إلى هذه الأمة ، وكذا ظهر فيهم المنة في العفو عن الإهلاك في الدنيا دون سائر الأمم ، والله أعلم.
ثم ظاهر قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) استدلال واحتجاج لأهل الإلحاد ؛ لأن مثل هذا في الشاهد إنما يقال لأحد معنيين : أما لجهل بالعواقب ، أو لعجز عن وفاء ما وعد ، لكن الله يتعالى عن الوصف بالجهل بعواقب الأمور والوصف بالعجز عن شيء مما أقام من الآيات والبراهين على العلم والقدرة.
ثم قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يحتمل الكلمة : الحجة ؛ كقوله تعالى : (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) [يونس : ٨٢] ، وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩] ، أي : لحجج ربي ، وتكون الكلمة منه : الدين ؛ كقوله تعالى : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) [التوبة : ٤٠] ، ونحوه.
وقيل : الكلمة : هي الساعة التي هي آخر عذاب هذه الأمة ، فقال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦] ، والله أعلم.
وجائز أن تكون الكلمة هاهنا ما سبق من المنة لهذه الأمة ألا يعذبها وقت استحقاقهم العذاب.
أو سبق منه المنة والرحمة بتأخير الهلاك عن وقت اكتسابهم أسباب الهلاك ، وهذا على المعتزلة والخوارج ؛ لقولهم : إن ليس لله أن يعفو أو يؤخر العذاب عمن وجب عليه أو استحقه أو كلام نحوه ، حيث منّ ورحم هذه الأمة بتأخير العذاب عنهم إلى وقت ، ولو لم يستحقه العذاب ، لم يكن لذكر المنة والرحمة في ذلك معنى ؛ وهو كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).
يخبر ـ عزوجل ـ أنه إنما امتحنهم لا لمنافع فيه يجرّ إلى نفسه ، أو لمضار يدفعها عن نفسه ، ولكنه إنما امتحنهم وأمرهم ونهاهم ؛ لمنافع يكتسبون لأنفسهم ، ولمضار يدفعون بذلك عن أنفسهم ، وليس كملوك الأرض أنهم يمتحنون الخلق ويأمرون وينهون ويستعملونهم لمنافع أنفسهم ، ولمضار يدفعونها بذلك عن أنفسهم ، فأما الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإنما يمتحن الخلائق لمنافع يجرون إلى أنفسهم ولمضار يدفعون به عن أنفسهم ، فلهم حصول منافع ذلك الامتحان والأمر والنهي ، وعليهم حصول ضرر ذلك ؛ فلأنفسهم يعملون ما يعملون من الخير والطاعة ، وعليهم ما يعملون من الشر ؛ ولذلك