والثالث : جائز أن يكون ما ذكر من الآيتين على ما ذكر إخبارا عما طبع عليه البشر وأنشئ ، وإنما أنشئ البشر وطبع على الرغبة في الخير والسعة والنفار عن الشدة والبلاء والكراهة له ؛ فهذا إخبار عما طبعوا عليه وأنشئوا ، ليس على حقيقة إظهار ذلك منهم قولا أو فعلا ، [ولكن] على ما طبع كل إنسان ؛ راغبا حريصا في السعة والرخاء ، وأنه ما ذكر لا يسأم من دعاء الخير ، كارها نافرا عن البلاء والشدة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي).
قال بعضهم : (هذا لِي) ، أي : أعطانيه من خير علمه مني.
وجائز أن يكون ما ذكرنا أنهم كانوا يتطيرون بالرسل عند البلاء والشدة ، والسعة يرونها من أنفسهم ؛ حيث قال : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ...) الآية [الأعراف : ١٣١].
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً).
كانوا ينكرون البعث والجزاء لما عملوا في الدنيا ، ثم يقولون : ولئن كان يذكر محمد من البعث والجزاء للأعمال والجنة ؛ إن ذلك لنا دونهم ، وهو قوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠] أي : إن رجعت إلى ربي على ما يقوله محمد : (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وهو على ما قالوا في الدنيا : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١] لما رأوا السعة لأنفسهم في الدنيا دون المؤمنين ؛ فعلى ذلك في الآخرة قالوا لنا دونهم ، والله الهادي.
ثم أخبر تعالى عما ينزل بهم بأعمالهم في الآخرة ، وهو قوله تعالى : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ).
أي : ننبئنهم بخبر ما (١) عملوا ؛ لأن ذلك كان منهم تمنيا وتشهيا بمن يذيقهم العذاب الغليظ.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)
هو ما ذكرنا من دعائهم وسؤالهم الخير وطمعهم ذلك.
وقوله : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) ، قال أبو عوسجة : (وَنَأى بِجانِبِهِ) أي : تباعد عما أمر به ، (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي : كثير الدعاء لا يمل ولا يسأم ، وكذا قال القتبي.
قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ
__________________
(١) في أ : أنما.