الثالث : أن يقال إنّ هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدّمة ، كأنه تعالى قال (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي : أبعدهم عنه ، أو عن الصدق ، أو الخير ، أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام ، وأعماهم لا يبصرون طريقة الإسلام فإذا هم بين أمرين : إمّا لا يتدبرون القرآن ، فيبعدون عنه لأنّ الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق ، والقرآن منهما هو الصنف الأعلى بل النوع الأشرف.
وإمّا يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة تقديره أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعدين (أَمْ) أي : بل (عَلى قُلُوبٍ) أي : من قلوب الفاعلين لذلك (أَقْفالُها) فلا تعي شيئا ولا تفهم أمرا ، ولا تزداد إلا غباوة وعنادا لأنها لا تقدر على التدبير قال القشيري : فلا يدخلها زواجر التنبيه ، ولا ينبسط عليها شعاع العلم ، فلا يحصل لهم فهم الخطاب. والباب إذا كان مغلقا فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه فلا كفرهم يخرج ، ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل. ا. هـ.
فإن قيل ما الفائدة في تنكير القلوب. أجاب الزمخشري بقوله : يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون للتنبيه على كونه موصوفا ، لأنّ النكرة بالوصف أولى من المعرفة كأنه قال أم على قلوب قاسية أو مظلمة.
الثاني : أن تكون للتبعيض كأنه قال أم على بعض القلوب لأنّ النكرة لا تعم تقول : جاءني رجال فيفهم البعض ، وجاءني الرجال فيفهم الكل. والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب ، وذلك لأنّ القلب إذا كان عارفا كان معروفا ، لأنّ القلب خلق للمعرفة فإذا لم تكن فيه المعرفة ، فكأنه لا يعرف قلبا فلا يكون قلبا يعرف ، كما يقال للإنسان المؤذي : هذا ليس بإنسان فكذلك يقال : هذا ليس بقلب ، هذا حجر ، وإذا علم هذا ، فالتعريف إمّا بالألف واللام ، وإما بالإضافة بأن يقال على قلوبهم أقفالها ، وهي لعدم عود فائدة إليهم كأنها ليست لهم.
فإن قيل قد قال تعالى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧] وقال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) [الزمر : ٢٢].
أجيب بأنّ الأقفال أبلغ من الختم ، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأسا.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (أَقْفالُها) بالإضافة؟ ولم يقل أقفال كما قال : (قُلُوبٍ.)
أجيب بأنّ الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم يضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم ، وأضاف الأقفال إليها لكونها مناسبة لها ، أو يقال : أراد به أقفالا مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد.
ولما أخبر تعالى بأقفال قلوبهم بين منشأ ذلك. فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا) أي : من أهل الكتاب وغيرهم (عَلى أَدْبارِهِمْ) أي : رجعوا كفارا (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ) أي : غاية البيان (لَهُمُ الْهُدَى) أي : بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن بيان مبين (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي : زين وسهل لهم اقتراف الكبائر (وَأَمْلى) أي : ومدّ الشيطان (لَهُمُ) في الآمال والأماني بإرادته تعالى فهو المضل لهم وقرأ أبو عمرو : بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء والباقون : بفتح الهمزة واللام وسكون الألف المنقلبة وأمالها حمزة والكسائي محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح قال في الكشاف : فإن قلت : من هؤلاء؟ قلت : اليهود كفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم من بعد ما