وعندها تم الكلام فالوقف على (وَتُوَقِّرُوهُ) وقف تامّ ثم يبتدئ بقوله تعالى : (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي غدوة وعشيا أي دائما وعن ابن عباس صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر على أنّ الكناية في (وَتُسَبِّحُوهُ) راجعة إلى الله عزوجل وقال البقاعي : الأفعال الثلاثة يحتمل أن يراد بها الله تعالى لأنّ من سعى في قمع الكفار فقد فعل المعزر الموقر ، فيكون إما عائدا على المذكور وإمّا أن يكون جعل الاسمين واحدا إشارة إلى اتحاد المسميين في الأمر فلما اتحد أمرهما وحد الضمير إشارة إلى ذلك ا. ه فعنده أنه يصح رجوع الثلاثة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنه فسر (وَتُسَبِّحُوهُ) بقوله ينزهوه عن كل وخيمة بإخلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالياء في الأربعة على الغيبة رجوعا إلى قوله تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) والباقون بالتاء على الخطاب.
ولما بين تعالى أنه مرسل ذكر أنّ من بايع رسوله فقد بايعه. فقال تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))
(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) يا أشرف الرسل بالحديبية على أن لا يفروا (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أي : الملك الأعظم لأنّ عملك كله من قول أو فعل له تعالى وما ينطق عن الهوى وسميت مبايعة لأنهم باعوا أنفسهم فيها من الله تعالى بالجنة قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] الآية «وروى يزيد بن أبي عبيد قال : قلت لسلمة بن الأكوع على أيّ شيء بايعتم رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية قال : على الموت» (١) وعن معقل بن يسار قال : «لقد رأيتني يوم الشجرة والنبيّ صلىاللهعليهوسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ونحن أربعة عشر مائة قال : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ» (٢) قال أبو عيسى : معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت. أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل وبايعه آخرون وقالوا : لا نفر. وقوله تعالى : (يَدُ اللهِ) أي : المتردّي بالكبرياء (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي : في المبايعة يحتمل وجوها وذلك أنّ اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد وإمّا أن تكون بمعنيين فإن كانت بمعنى واحد ففيه وجهان : أحدهما قال الكلبي : نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا
__________________
(١) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٩٦٠ ، والترمذي في السير حديث ١٥٩٢ ، والنسائي في البيعة حديث ٤١٥٩.
(٢) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٨٥٨.